إعلانات المنتدى

مسابقة مزامير القرآنية 1445هـ

كلمات نيّرات للإمام إبن القيّم (حياة المُحبّين)

الأعضاء الذين قرؤوا الموضوع ( 0 عضواً )

طه صديق

عضو كالشعلة
22 أغسطس 2010
310
2
0
الجنس
ذكر



قال إبن القّيم في مدارج السالكين : فهمة المحب إذا تعلقت روحه بحبيبه ، عاكفا على مزيد محبته ، وأسباب قوتها ، فهو يعمل على هذا ، ثم يترقى منه إلى طلب محبة حبيبه له ، فيعمل على حصول ذلك ، ولا يعدم الطلب الأول ، ولا يفارقه ألبتة ، بل يندرج في هذا الطلب الثاني ، فتتعلق همته بالأمرين جميعا ، فإنه إنما يحصل له منزلة " كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به " بهذا الأمر الثاني ، وهو كونه محبوبا لحبيبه ، كما قال في الحديث " فإذا أحببته كنت سمعه وبصره " إلخ ، فهو يتقرب إلى ربه حفظا لمحبته له ، واستدعاء لمحبة ربه له .

فحينئذ يشد مئزر الجد في طلب محبة حبيبه له بأنواع التقرب إليه ، فقلبه ؛ للمحبة والإنابة والتوكل والخوف والرجاء ، ولسانه ؛ للذكر وتلاوة كلام حبيبه ، وجوارحه : للطاعات ، فهو لا يفتر عن التقرب من حبيبه .

وهذا هو السير المفضي إلى هذه الغاية التي لا تنال إلا به ، ولا يتوصل إليها إلا من هذا الباب ، وهذه الطريق ، وحينئذ تجمع له في سيره جميع متفرقات السلوك من الحضور والهيبة والمراقبة ونفي الخواطر وتخلية الباطن .

فإن المحب يشرع أولا في التقربات بالأعمال الظاهرة ، وهي ظاهر التقرب ، ثم يترقى من ذلك إلى حال التقرب ، وهو الانجذاب إلى حبيبه بكليته بروحه وقلبه ، وعقله وبدنه ، ثم يترقى من ذلك إلى حال الإحسان ، فيعبد الله كأنه يراه ، فيتقرب إليه حينئذ من باطنه بأعمال القلوب ؛ من المحبة والإنابة والتعظيم والإجلال والخشية ، فينبعث حينئذ من باطنه الجود ببذل الروح والجود في محبة حبيبه بلا تكلف ، فيجود بروحه ونفسه ، وأنفاسه وإرادته ، وأعماله لحبيبه حالا لا تكلفا ، فإذا وجد المحب [ ص: 254 ] ذلك فقد ظفر بحال التقرب وسره وباطنه ، وإن لم يجده فهو يتقرب بلسانه وبدنه وظاهره فقط ، فليدم على ذلك ، وليتكلف التقرب بالأذكار والأعمال على الدوام ، فعساه أن يحظى بحال القرب .

ووراء هذا القرب الباطن أمر آخر أيضا ، وهو شيء لا يعبر عنه بأحسن من عبارة أقرب الخلق إلى الله صلى الله عليه وسلم عن هذا المعنى ، حيث يقول حاكيا عن ربه تبارك وتعالى : من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ، ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا ، ومن أتاني يمشي أتيته هرولةفيجد هذا المحب في باطنه ذوق معنى هذا الحديث ذوقا حقيقيا .

فذكر من مراتب القرب ثلاثة ، ونبه بها على ما دونها وما فوقها . فذكر تقرب العبد إليه بالبر ، وتقربه سبحانه إلى العبد ذراعا ، فإذا ذاق العبد حقيقة هذا التقرب انتقل منه إلى تقرب الذراع ، فيجد ذوق تقرب الرب إليه باعا .

فإذا ذاق حلاوة هذا القرب الثاني أسرع المشي حينئذ إلى ربه ، فيذوق حلاوة إتيانه إليه هرولة ، وهاهنا منتهى الحديث ، منبها على أنه إذا هرول عبده إليه كان قرب حبيبه منه فوق هرولة العبد إليه ، فإما أن يكون قد أمسك عن ذلك لعظيم شاهد الجزاء ، أو لأنه يدخل في الجزاء الذي لم تسمع به أذن ، ولم يخطر على قلب بشر ، أو إحالة له على المراتب المتقدمة ، فكأنه قيل له وقس على هذا ، فعلى قدر ما تبذل منك متقربا إلى ربك يتقرب إليك بأكثر منه ، وعلى هذا فلازم هذا التقرب المذكور في مراتبه ؛ أي من تقرب إلى حبيبه بروحه وجميع قواه ، وإرادته وأقواله وأعماله تقرب الرب منه سبحانه بنفسه في مقابلة تقرب عبده إليه .

وليس القرب في هذه المراتب كلها قرب مسافة حسية ولا مماسة ، بل هو قرب حقيقي ، والرب تعالى فوق سماواته على عرشه ، والعبد في الأرض .

وهذا الموضع هو سر السلوك ، وحقيقة العبودية ، وهو معنى الوصول الذي يدندن حوله القوم .

وملاك هذا الأمر هو قصد التقرب أولا ، ثم التقرب ثانيا ، ثم حال القرب ثالثا ، وهو الانبعاث بالكلية إلى الحبيب .

وحقيقة هذا الانبعاث : أن تفنى بمراده عن هواك ، وبما منه عن حظك ، بل يصير ذلك هو مجموع حظك ومرادك ، وقد عرفت أن من تقرب إلى حبيبه بشيء من الأشياء جوزي على ذلك بقرب هو أضعافه ، وعرفت أن أعلى أنواع التقرب تقرب العبد بجملته بظاهره وباطنه ، وبوجوده إلى حبيبه ، فمن فعل ذلك فقد تقرب بكله ، ولم تبق منه بقية لغير حبيبه ، كما قيل :


لا كان من لسواك فيه بقية يجد السبيل بها إليه العذل
وإذا كان المتقرب إليه بالأعمال يعطي أضعاف أضعاف ما تقرب به ، فما الظن بمن أعطي حال التقرب وذوقه ووجده ؟ فما الظن بمن تقرب إليه بروحه ، وجميع إرادته وهمته ، وأقواله وأعماله ؟

وعلى هذا فكما جاد لحبيبه بنفسه ، فإنه أهل أن يجاد عليه ، بأن يكون ربه سبحانه هو حظه ونصيبه ، عوضا عن كل شيء ، جزاء وفاقا ، فإن الجزاء من جنس العمل . وشواهد هذا كثيرة .

منها : قوله تعالى : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه ففرق بين الجزاءين كما ترى ، وجعل جزاء المتوكل عليه كونه سبحانه حسبه وكافيه .

ومنها : أن الشهيد لما بذل حياته لله أعاضه الله سبحانه حياة أكمل منها عنده في محل قربه وكرامته .

ومنها : أن من بذل لله شيئا أعاضه الله خيرا منه .

ومنها : قوله تعالى فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون

ومنها : قوله في الحديث القدسي من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه .

ومنها : قوله من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا الحديث .


فالعبد لا يزال رابحا على ربه أفضل مما قدم له ، وهذا المتقرب بقلبه وروحه وعمله يفتح عليه ربه بحياة لا تشبه ما الناس فيه من أنواع الحياة ، بل حياة من ليس كذلك بالنسبة إلى حياته ، كحياة الجنين في بطن أمه بالنسبة إلى حياة أهل الدنيا ولذتهم فيها ، بل أعظم من ذلك .

فهذا نموذج من باين شرف هذه الحياة وفضلها ، وإن كان علم هذا يوجب لصاحبه حياة طيبة ، فكيف إن انصبغ القلب به ، وصار حالا ملازما لذاته ؟ فالله المستعان .


هذي حياة الفتى فإن فقدت ففقده للحياة أليق به


فلا عيش إلا عيش المحبين ، الذين قرت أعينهم بحبيبهم ، وسكنت نفوسهم إليه ، واطمأنت قلوبهم به ، واستأنسوا بقربه ، وتنعموا بحبه ، ففي القلب فاقة لا يسدها إلا محبة الله والإقبال عليه والإنابة إليه ، ولا يلم شعثه بغير ذلك ألبتة ، ومن لم يظفر بذلك : فحياته كلها هموم وغموم ، وآلام وحسرات ، فإنه إن كان ذا همة عالية تقطعت نفسه على الدنيا حسرات ، فإن همته لا ترضى فيها بالدون وإن كان مهينا خسيسا ، فعيشه كعيش أخس الحيوانات ، فلا تقر العيون إلا بمحبة الحبيب الأول .


نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبدا لأول منزل



 
  • أعجبني
التفاعلات: شخص واحد

الموجودة

مشرفة قديرة سابقة
5 يناير 2010
8,498
406
83
الجنس
أنثى
علم البلد
رد: كلمات نيّرات للإمام إبن القيّم (حياة المُحبّين)

بارك الله فيك وأثابك الجنة
 

طموحـة

مشرفة سابقة
31 أكتوبر 2010
4,028
154
63
الجنس
أنثى
رد: كلمات نيّرات للإمام إبن القيّم (حياة المُحبّين)

يا الله .. ماأروعها من كلمات
يارب لا تحرمنا فضلك
بارك الله فيكم على النقل الرائع
 
  • أعجبني
التفاعلات: شخص واحد

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع