12 رمضان
12 رمضان
بسم الله الرحمن الرحيم
ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم (على قول)
واختلف في الشهر الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمما قيل إنه ود في شهر رمضان في الثاني عشر منه. (وسيلة الإسلام 1/44) الخصائص الكبرى 1/86.
نزول الزبور على داود عليه السلام:
ومما نقله الإمام ابن كثير في البداية والنهاية (2/78) أن الزبور نزل على داود عليه السلام في اثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان، وذلك بعد التوراة بأربعمائة سنة واثنتين وثمانين سنة.
وقد قال الله تعالى حاكياً لنا بعض ما أوحاه في الزبور (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)
وقال ابن كثير : لما اجتمعت بنو إسرائيل على داود أنزل الله عليه الزبور وعلمه صنعة الحديد ، وألانه له ، وأمر الجبال والطير أن يسبّحن معه إذا سبّح ، ولم يعط الله فيما يذكرون أحداً من خلقه مثل صوته : كان إذا قرأ الزبور فيما يذكرون ترنو له الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها وأنها لمصيخة تسمع لصوته.
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن داود كان يقرأ الزبور بسبعين صوتاً يكون فيها
وعن وهب بن منبه أن الله تعالى أوحى إلى داود في الزبور : ياداود إنه سيأتي من بعدك بني اسمه أحمد ومحمد صادقاً سيداً لا أغضب عليه ولا يغضبني أبداً وقد غفرت له ـ قبل أن يعصيني ـ ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأمته مرحومة أعطيتهم من النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء وفرضت عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء والرسل.
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار:
خرج المسلمون من مكة مهاجرين إلى المدينة واحتشدوا فيها ، ثم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشرع في بناء المسجد في المدينة
ورأى صلى الله عليه وسلم بحكمته ـ وبما أمره الله به ـ أن يجمع شمل المسلمين المهاجرين مع المسلمين أصحاب المدينة ففرض المؤاخاة بينهما،
وتذكر بعض الروايات أنه آخى بينهما والمسجد يبنى
وتذكر مصادر أخرى أنه آخى بينهما بعد ذلك (السيرة الحلية 2/29).
ويقول بعض الكتاب: إنها كانت في اليوم الثاني عشر من شهر رمضان في السنة الأولى بعد الهجرة النبوية الشريفة.
ولكن المتفق عليه في هذا الصدد هو أن المؤاخاة تمت قبل غزوة بدر.
قال ابن عبد البر في (الدرر في اختصار المغازي والسير 1/88) :
ـ وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بنائه المسجد بين الأنصار والمهاجرين ، وقد قيل: إن المؤاخاة كانت والمسجد يبنى بين المهاجرين والأنصار على المواساة والحق. فكانوا يتوارثون بذلك (أي بالمؤاخاة) دون القرابات حتى نزلت (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) . . .
وذكر سعيد بن داود قال : بلغنا وكتبنا عن شيوخنا أنه صلى الله عليه وسلم آخى يؤمئذ بين أبي بكر الصديق وخارجة بن زيد بن أبي زهير ، وبين عمر بن الخطاب وعويمر بن ساعدة ، وبين عثمان بن عفان وأوس بن ثابت ، وبين علي بن أبي طالب وسهل بن حنيف، وبين زيد بن حارثة وأسيد بن جعفر ، وبين مرثد الغنوي وعبادة بن الصامت ، وبين الزبير بن العوام وكعب بن مالك ، وبين طلحة وأبي بن كعب. . . الخ. وقال فيها صلى الله عليه وسلم :
ـ (تآخوا في الله أخوين أخوين). رواه ابن اسحاق (السيرة النبوية لابن هشام 3/36).
مقتل ذي النفس الزكية محمد بن عبد الله بن حسن:
ومن حوادث اليوم الثاني عشر من شهر رمضان مقتل رجل من أهل البيت بلغ ذروة المجد، واجتمعت فيه – كما يقول صاحب شذرات الذهب – خصال الكمال والعقل، ويشبه النبي صلى الله عليه وسلم في الخلق والخلق، وفي اسمه واسم أبيه . . . ذلك هو محمد بن عبد الله بن حسن الذي لقب بذي النفس الزكية، والذي كان المنصور والسفاح قبل خلافتهما - أي أيام الأمويين - من الدعاة إليه.
قال ابن العماد : حج المنصور بالناس ، وأهمه شأن محمد بن عبد الله بن الحسن وأخيه إبراهيم لتخلفهما عن الحضور عنده ، فوضع عليهما العيون وبالغ في تطلبهما ، وقبض على أبيهما فسجنه في بضعة عشر من أهل البيت ، وماتوا في سجنه ، فلما بلغ محمداً وفاة أبيه ثار بالمدينة ، وسجن متوليها وتتبع أصحابه، وخطب الناس وبايعوه ، واستعمل على مكة واليمن والشام عمالاً.
ولما أعيا المنصور أمره جهز إليه ابن عمه عيسى بن موسى بن محمد بن علي، فسار إليه في أربعة آلاف وكتب إلى الأشراف يستميلهم فمال كثير منهم، وتحصن محمد بالمدينة وأعمق خندقها ، وزحف عليه عيسى وناداه بالأمان وناشده الله. ومحمد لا يرعوي لذلك.
ولما رأى تخاذل أصحابه اغتسل وتحنط، وقاتلهم بنفسه قتالاً شديداً ومعه ثمانون رجلاً ، وقتل بيده اثني عشر رجلاً ثم قتل .
واستشهد لثنتي عشرة ليلة من رمضان سنة خمس وأربعين ومئة ، وله اثتنان وخمسون سنة ، وقبره بالبقيع .
فتح جزيرة قبرص:
ومن حوادث اليوم الثاني عشر من شهر رمضان فتح قبرص مرة ثانية عام 829م في عهد الملك الأشرف. وقد كانت قبرص محل صراع بين المسلمين والفرنجة عهوداً طويلة . . .
جاء وصفها في (النجوم الزاهرة 14/294 ): جزيرة تسمى باللغة الرومية شبرا ، فيها اثنا عشرة ألف قرية كباراً أو صغاراً، وبمدنها وقراها من الكنائس والديارات والقلالي والصوامع كثير ، وبها البساتين المشتملة على الفواكه المختلفة، وبها الرياحين المعطرة كالخزام والياسمين والورد والسوسن والنرجس والريحان والنسرين والأقحوان وشقائق النعمان وغير ذلك ، وبمدن الجزيرة المذكورة الأسواق والخانات والحمامات والمباني العظيمة . . .
وقد حاول الفرنجة رد المسلمين عن قبرص فحشروا قوات برية وبحرية ، منها أربعة عشر مركباً مشحونة بالسلاح والمقاتلة، فلاقاهم المسلمون في البحر بالمراكب وقاتلوهم أشد القتال، حتى ولّى الفرنجة الأدبار ، فدخل على إثر ذلك المسلمون قبرص ودخلوا قصر الملك وأسروه.
وأقام المسلمون سبعة أيام أراحوا فيها ابدأنهم ، وهم يقيمون فيها شعائر الإسلام من الأذان والصلاة والتسبيح لله والحمد على هذه المنة بهذا الفتح العظيم ، الذي لم يقع في الإسلام مثله من يوم غزاهم معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في سنة نيف وستين.
قال ابن تغري : ثم ركبت الغزاة المراكب إلى جهة الديار المصرية ومعهم الأسرى والغنائم ومن جملتها (ملك قبرس ) وذلك في يوم الخميس ثاني عشر رمضان.
ولما بلغ السلطان الملك الأشرف (برسباي) خبر فتح قبرص بكى من شدة الفرح، وبكى الناس لبكائه ، وصار يكثر من الحمد والشكر لله ، وقرأ الكتاب الوارد بهذا النصر على الناس بالمدرسة الأشرفية ، وقالت الشعراء في هذا الفتح القصائد، منها قصيدة الشيخ الخراط أولها :
بشراك يا ملك الملوك الأشرفي بفتوح قبرص بالحسام المشرفي فتح بشهر الصوم تم له فيا لك أشرفٌ في أشرفٍ في أشرفِ فتح تفتحت السموات العلى من أجله بالنصر واللطف الخفي والله حضّ جنوده بملائك عاداتها التأييد وهو بها حفي.
اصطلح المؤرخون على تقسيم تاريخ دولة المماليك التي حكمت مصر والشام والحجاز إلى عصرين: عصر دولة المماليك البحرية (648- 784هـ = 1250- 1381م) نسبة إلى بحر النيل؛ حيث اختار السلطان الصالح "نجم الدين أيوب" جزيرة الروضة في وسط النيل لتكون مقرا لمماليكه، أما العصر الآخر؛ فأُطلق عليه "عصر دولة المماليك الجراكسة" أو المماليك البرجية (784- 922هـ = 1382- 1517م) نسبة إلى بلاد الجراكسة التي جُلبوا منها إلى مصر، أو نسبة إلى برج قلعة القاهرة، حيث كانوا يقيمون في ثكنات حوله.
وقد اتسمت الفترة الثانية بأن بلغت دولة المماليك أقصى اتساع لها في القرن التاسع الهجري، فأضافت إلى رقعتها جزيرة قبرص، وكانت تمثل خطرا داهما على نفوذها، وحاولت أن تضم "رودس" حتى تقضي على الحروب الصليبية تماما، بعد أن انتقل نشاطها من الشام إلى البحر المتوسط، لكنها لم تفلح في ضم رودس، كما بسطت نفوذها على أعالي الفرات، وأطراف آسيا الصغرى، وهو ما جعلها تتبوأ مكانة رفيعة في العالم الإسلامي.
ولاية برسباي
بدأ "برسباي" حياته مثل آلاف المماليك الذين يُجلبون إلى مصر، ويتلقون تعليما شرعيا وتربية خاصة في فنون الحرب والقتال، ثم يلتحقون بخدمة السلاطين، وكبار الأمراء، وترتقي ببعضهم مواهبهم وملكاتهم إلى المناصب القيادية في الدولة، وقد تسعدهم الأقدار فيصعدون إلى سدة الحكم والسلطنة، فيصبحون ملء الأسماع والأبصار، وتتطلع إليهم الأفئدة والقلوب، بعد أن كانوا مجهولي النسب، مغموري الأصل، ولكن رفعتهم همتهم أو ذكاؤهم وحيلتهم.
كان برسباي مملوكا للأمير "دقماق المحمدي" نائب "ملطية"، الذي اشتراه من أحد تجار الرقيق، ومكث في خدمته زمنا، ولقب بالدقماق نسبة إليه، فأصبح يعرف ببرسباي الدقماقي، ثم أهداه سيده إلى السلطان الظاهر "برقوق" سلطان مصر، فأعتقه، وجعله من جملة مماليكه وأمرائه، وبعد وفاة السلطان برقوق تقلّب في مناصب متعددة في عهد من خلفه من السلاطين، حتى نجح في اعتلاء عرش السلطنة في (8 من ربيع الآخر 825هـ = 1 من إبريل 1422م)، وهو السلطان الثامن في ترتيب سلاطين دولة المماليك الجركسية، والثاني والثلاثون في الترتيب العام لسلاطين دولة المماليك.
وقد نجح السلطان برسباي في الفترة التي قضاها في الحكم -وهي نحو سبعة عشر عاما- في إشاعة الأمن والاستقرار، والقضاء على الثورات والفتن، التي شبت في البلاد، والضرب على أيدي الخارجين على النظام، كما فعل مع ثورة طائفة المماليك الأجلاب، وهم الذين جاءوا إلى مصر كبارًا، وكانوا قد عاثوا في الأرض فسادًا لتأخر رواتبهم في عامي (835هـ = 1431م)، (838هـ = 1434م)، وقد مكّنه ذلك الاستقرار الذي نعمت به البلاد من القيام بغزو جزيرة قبرص.
فتح قبرص
اتخذ القبارصة من جزيرتهم مركزًا للوثوب على الموانئ الإسلامية في شرق البحر المتوسط وتهديد تجارة المسلمين، فقام "بطرس الأول لوزجنان" ملك قبرص بحملته الصليبية على الإسكندرية في سنة (767هـ = 1365م)، وأحرق الحوانيت والخانات والفنادق، ودنس المساجد وعلق القبارصة عليها الصلبان، واغتصبوا النساء، وقتلوا الأطفال والشيوخ، ومكثوا بالمدينة ثلاثة أيام يعيثون فيها فسادا، ثم غادروها إلى جزيرتهم، وتكررت مثل هذه الحملة على طرابلس الشام في سنة (796هـ = 1393م).
وظلت غارات القبارصة لا تنقطع على الموانئ الإسلامية، ولم تفلح محاولات سلاطين المماليك في دفع هذا الخطر والقضاء عليه، وبلغ استهانة القبارصة بهيبة دولة المماليك واغترارهم بقوتهم أن اعتدى بعض قراصنتهم على سفينة مصرية سنة (826هـ = 1423م)، وأسروا من فيها، ولم تفلح محاولات السلطان برسباي في عقد معاهدة مع "جانوس" ملك قبرص، تَضْمن عدم التعدي على تجار المسلمين.
وتمادى القبارصة في غرورهم، فاستولوا على سفينتين تجاريتين، قرب ميناء دمياط، وأسروا من فيهما، وكانوا يزيدون على مائة رجل، ثم تجاوزوا ذلك فاستولوا على سفينة محملة بالهدايا كان قد أرسلها السلطان برسباي إلى السلطان العثماني "مراد الثاني"، عند ذلك لم يكن أمام برسباي سوى التحرك لدفع هذا الخطر، والرد على هذه الإهانات التي يواظب القبارصة على توجيهها لدولة المماليك، واشتعلت في نفسه نوازع الجهاد، والشعور بالمسئولية، فأعد ثلاث حملات لغزو قبرص، وذلك في ثلاث سنوات متتالية.
الحملات الثلاث
خرجت الحملة الأولى في سنة (827هـ = 1424م)، وكانت حملة صغيرة نزلت قبرص، وهاجمت ميناء "ليماسول"، وأحرقت ثلاث سفن قبرصية كانت تستعد للقرصنة، وغنموا غنائم كثيرة، ثم عادت الحملة إلى القاهرة.
شجع هذا الظفر أن يبادر برسباي بإعداد حملة أعظم قوة من سابقتها لغزو قبرص، فخرجت الحملة الثانية في رجب (828هـ = مايو 1425م) مكونة من أربعين سفينة، واتجهت إلى الشام، ومنها إلى قبرص، حيث نجحت في تدمير قلعة ليماسول، وقُتل نحو خمسة آلاف قبرصي، وعادت إلى القاهرة تحمل بين يديها ألف أسير، فضلاً عن الغنائم التي حُملت على الجمال والبغال.
وفي الحملة الثالثة استهدف برسباي فتح الجزيرة وإخضاعها لسلطانه، فأعد حملة أعظم من سابقتيها وأكثر عددا وعُدة، فأبحرت مائة وثمانون سفينة من رشيد في (829هـ = 1426م)، واتجهت إلى ليماسول، فلم تلبث أن استسلمت للقوات المصرية في (26 من شعبان 829هـ = 2من يوليو 1426م)، وتحركت الحملة شمالا في جزيرة قبرص، وحاول ملك الجزيرة أن يدفع القوات المصرية، لكنه فشل وسقط أسيرا، واستولت القوات المصرية على العاصمة "نيقوسيا"، وبذا دخلت الجزيرة في طاعة دولة المماليك.
واحتفلت القاهرة برجوع الحملة الظافرة التي تحمل أكاليل النصر، وشقّت الحملة شوارع القاهرة التي احتشد أهلها لاستقبال الأبطال في (8 من شوال 829هـ = 14 من أغسطس 1426م)، وكانت جموع الأسرى البالغة 3700 أسير تسير خلف الموكب، وكان من بينها الملك جانوس وأمراؤه.
استقبل برسباي بالقلعة ملك قبرص، وكان بحضرته وفود من أماكن مختلفة، مثل: شريف مكة، ورسل من آل عثمان، وملك تونس، وبعض أمراء التركمان، فقبّل جانوس الأرض بين يدي برسباي، واستعطفه في أن يطلق سراحه، فوافق السلطان على أن يدفع مائتي ألف دينار فدية، مع التعهد بأن تظل قبرص تابعة لسلطان المماليك، وأن يكون هو نائبا عنه في حكمها، وأن يدفع جزية سنوية، واستمرت جزيرة قبرص منذ ذلك الوقت تابعة لمصر، حتى سنة (923هـ = 1517م) التي سقطت فيها دولة المماليك على يد السلطان العثماني "سليم الأول".
وفاة الواعظ المحدث ابن الجوزي:
ومن حوادث اليوم الثاني عشر من شهر رمضان سنة 597هـ (وفيات الأعيان 3/141) وفاة أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد القرشي البغدادي الفقيه المحدث المفسر الواعظ الحنبلي المعروف بابن الجوزي
كان علامة عصره في الحديث وصناعة الوعظ، وصنف فيها تصانيف مفيدة وكتبه أكثر من أن تعد. له أشعار كثيرة، وكانت له مجالس وعظ مشهورة حاشدة وأثرت عنه أجوبة نادرة. يقال : إنه جمعت برايه أقلامه التي كتب بها حديث رسول الله صلى الله عليه فحصل منها شيء كثير ، أوصى أن يسخّن بها الماء الذي يغسل به بعد موته ففعل ذلك فكفت وفضل منها.
توفي يوم الثاني عشر من رمضان وأمر أن يكتب على قبره :
يا كثير العفو عمن كثر الذنب لديه
جاءك المجرم يرجو العفو عن جرم يديه
أنا ضيف وجزاء الضيف إحسان إليه.
أبو الفرج ابن الجوزي أبو الفرج ابن الجوزي
الشيخ الإمام العلامة ، الحافظ المفسر ، شيخ الإسلام مفخر العراق ، جمال الدين ، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله بن عبد الله بن حمادي بن أحمد بن محمد بن جعفر بن عبد الله بن القاسم بن النضر بن القاسم بن محمد بن عبد الله ابن الفقيه عبد الرحمن بن الفقيه القاسم بن محمد ابن خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبي بكر الصديق ، القرشي التيمي البكري البغدادي ، الحنبلي ، الواعظ ، صاحب التصانيف .
ولد سنة تسع أو عشر وخمس مائة .
وأول شيء سمع في سنة ست عشرة .
سمع من أبي القاسم بن الحصين ، وأبي عبد الله الحسين بن محمد البارع ، وعلي بن عبد الواحد الدينوري ، وأحمد بن أحمد المتوكلي ، وإسماعيل بن أبي صالح المؤذن ، والفقيه أبي الحسن بن الزاغوني ، وهبة الله بن الطبر الحريري ، وأبي غالب بن البناء ، وأبي بكر محمد بن الحسين المزرفي ، وأبي غالب محمد بن الحسن الماوردي ، وأبي القاسم عبد الله بن محمد الأصبهاني الخطيب ، والقاضي أبي بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري ، وإسماعيل ابن السمرقندي ، ويحيى ابن البناء ، وعلي بن الموحد ، وأبي منصور بن خيرون ، وبدر الشيحي ، وأبي سعد أحمد وعبد محمد الزوزني ، وأبي سعد أحمد بن محمد البغدادي الحافظ ، وعبد الوهاب بن المبارك الأنماطي الحافظ ، وأبي السعود أحمد بن علي بن المجلي ، وأبي منصور عبد الرحمن بن زريق القزاز ، وأبي الوقت السجزي ، وابن ناصر ، وابن البطي ، وطائفة مجموعهم نيف وثمانون شيخا قد خرَّج عنهم "مشيخة" في جزئين .
ولم يرحل في الحديث ، لكنه عنده "مسند الإمام أحمد" و "الطبقات" لابن سعد ، و "تاريخ الخطيب" ، وأشياء عالية ، و "الصحيحان" ، والسنن الأربعة ، و "الحلية" وعدة تواليف وأجزاء يخرج منها.
وكان آخر من حدث عن الدينوري والمتوكلي .
وانتفع في الحديث بملازمة ابن ناصر ، وفي القرآن والأدب بسبط الخياط ، وابن الجواليقي ، وفي الفقه بطائفة .
حدث عنه : ولده الصاحب العلامة محيي الدين يوسف أستاذ دار المستعصم بالله ، وولده الكبير علي الناسخ ، وسبطه الواعظ شمس الدين يوسف بن قزغلي الحنفي صاحب "مرآة الزمان" ، والحافظ عبد الغني ، والشيخ موفق الدين ابن قدامة ، وابن الدبيثي ، وابن النجار ، وابن خليل ، والضياء ، واليلداني ، والنجيب الحراني ، وابن عبد الدائم ، خلق سواهم .
وبالإجازة الشيخ شمس الدين عبد الرحمن ، وابن البخاري ، وأحمد بن أبي الخير ، والخضر بن حمويه ، والقطب بن عصرون .
وكان رأسا في التذكير بلا مدافعة ، يقول النظم الرائق ، والنثر الفائق بديها ، ويسهب ويعجب ، ويطرب ، ويطنب ، لم يأت قبله ولا بعده مثله ، فهو حامل لواء الوعظ ، والقيم بفنونه ، مع الشكل الحسن ، والصوت الطيب ، والوقع في النفوس ، وحسن السيرة ، وكان بحرا في التفسير ، علامة في السير والتاريخ ، موصوفا بحسن الحديث ، ومعرفة فنونه ، فقيها ، عليما بالإجماع والاختلاف ، جيد المشاركة في الطب ، ذا تفنن وفهم وذكاء وحفظ واستحضار، وإكباب على الجمع التصنيف ، مع التصون والتجمل ، وحسن الشارة ، ورشاقة العبارة ، ولطف الشمائل ، والأوصاف الحميدة ، والحرمة الوافرة عند الخاص والعام ، ما عرفت أحدا صنف ما صنف .
توفي أبوه وله ثلاثة أعوام ، فربته عمته ، وأقاربه كانوا تجارا في النحاس ، فربما كتب اسمه في السماع عبد الرحمن بن علي الصفار .
ثم لما ترعرع ، حملته عمته إلى ابن ناصر ، فأسمعه الكثير ، وأحب الوعظ ، ولهج به ، وهو مراهق ، فوعظ الناس وهو صبي ، ثم ما زال نافق السوق معظما متغاليا فيه ، مزدحما عليه ، مضروبا برونق وعظه المثل ، كماله في ازدياد واشتهار ، إلى أن مات -رحمه الله وسامحه- فليته لم يخض في التأويل ، ولا خالف إمامه .
صنف في التفسير "المغني" كبير، ثم اختصره في أربع مجلدات ، وسماه : "زاد المسير" ، وله "تذكرة الأريب" في اللغة مجلد ، "الوجوه والنظائر" مجلد ، "فنون الأفنان" مجلد ، "جامع المسانيد" سبع مجلدات وما استوعب ولا كاد ، "الحدائق" مجلدان ، "نقي النقل" مجلدان ، "عيون الحكايات" مجلدان ، "التحقيق في مسائل الخلاف" مجلدان ، "مشكل الصحاح" أربع مجلدات ، "الموضوعات" مجلدان ، "الواهيات" مجلدان . "الضعفاء" مجلد ، "تلقيح الفهوم" مجلد ، "المنتظم في التاريخ" عشرة مجلدات .
"المذهب في المذهب" مجلد ، "الانتصار في الخلافيات" مجلدان ، "مشهور المسائل" مجلدان ، "اليواقيت" وعظ ، مجلد ، "نسيم السحر" مجلد ، "المنتخب" مجلد ، "المدهش" مجلد ، "صفوة الصفوة" أربع مجلدات "أخبار الأخيار" مجلد ، "أخبار النساء" مجلد ، "مثير العزم الساكن" مجلد ، "المقعد المقيم" مجلد ، "ذم الهوى" مجلد ، "تلبيس إبليس" مجلد.
"صيد الخاطر" ثلاث مجلدات ، "الأذكياء" مجلد ، "المغفلين" مجلد ، "منافع الطب" مجلد ، "صبا نجد" مجلد ، "الظرفاء" مجلد ، "الملهب" مجلد ، "المطرب" مجلد ، "منتهى المشتهى" مجلد ، "فنون الألباب" مجلد ، "المزعج" مجلد ، "سلوة الأحزان" مجلد ، "منهاج القاصدين" مجلدان ، "الوفا بفضائل المصطفى" مجلدان .
"مناقب أبي بكر" مجلد ، "مناقب عمر" مجلد ، "مناقب علي" مجلد ، "مناقب إبراهيم بن أدهم" مجلد ، "مناقب الفضيل" مجلد ، "مناقب بشر الحافي" مجلد ، "مناقب رابعة" جزء ، "مناقب عمر بن عبد العزيز" مجلد ، "مناقب سعيد بن المسيب" جزآن ، "مناقب الحسن" جزآن ، "مناقب الثوري" مجلد ، "مناقب أحمد" مجلد ، "مناقب الشافعي" مجلد ، "موافق المرافق" مجلد ، مناقب غير واحد جزء جزء ، "مختصر فنون ابن عقيل" في بضعة عشر مجلدا ، "مناقب الحبش" مجلد ، "لباب زين القصص" ، "فضل مقبرة أحمد" ، "فضائل الأيام" ، "أسباب البداية" ، "واسطات العقود" ، "شذور العقود في تاريخ العهود" ، "الخواتيم" ، "المجالس اليوسفية" .
"كنوز العمر" ، "إيقاظ الوسنان بأحوال النبات والحيوان" ، "نسيم الروض" ، "الثبات عند الممات" ، "الموت وما بعده" مجلد ، "ديوانه" عدة مجلدات ، "مناقب معروف" ، "العزلة" ، "الرياضة" ، "النصر على مصر" ، "كان وكان" في الوعظ ، "خطب اللآلئ" ، "الناسخ والمنسوخ" ، "مواسم العمر" ، "أعمار الأعيان" وأشياء كثيرة تركتها ، ولم أرها.
وكان ذا حظ عظيم وصيت بعيد في الوعظ ، يحضر مجالسه الملوك والوزراء وبعض الخلفاء والأئمة والكبراء ، لا يكاد المجلس ينقص عن ألوف كثيرة ، حتى قيل في بعض مجالسه : إن حزر الجمع بمائة ألف . ولا ريب أن هذا ما وقع ، ولو وقع ، لما قدر أن يسمعهم ، ولا المكان يسعهم .
قال سبطه أبو المظفر سمعت جدي على المنبر يقول : بأصبعي هاتين كتبت ألفي مجلدة ، وتاب على يدي مائة ألف ، وأسلم على يدي عشرون ألفا . وكان يختم في الأسبوع ، ولا يخرج من بيته إلا إلى الجمعة أو المجلس .
قلت : فما فعلتْ صلاة الجماعة ؟.
ثم سرد سبطه تصانيفه ، فذكر منها كتاب "المختار في الأشعار" عشر مجلدات ، "درة الإكليل" في التاريخ ، أربع مجلدات ، "الأمثال" مجلد ، "المنفعة في المذاهب الأربعة" مجلدان ، "التبصرة في الوعظ" ، ثلاث مجلدات ، "رءوس القوارير" مجلدان ، ثم قال : ومجموع تصانيفه مائتان ونيف وخمسون كتابا .
قلت : وكذا وجد بخطه قبل موته أن تواليفه بلغت مائتين وخمسين تأليفا .
ومن غرر ألفاظه : عقارب المنايا تلسع ، وخدران جسم الآمال يمنع ، وماء الحياة في إناء العمر يرشح .
يا أمير : اذكر عند القدرة عدل الله فيك ، وعند العقوبة قدرة الله عليك، ولا تشف غيظك بسقم دينك .
وقال لصديق : أنت في أوسع العذر من التأخر عني لثقتي بك ، وفي أضيقه من شوقي إليك .
وقال له رجل : ما نمت البارحة من شوقي إلى المجلس قال : لأنك تريد الفرجة ، وإنما ينبغي الليلة أن لا تنام .
وقام إليه رجل بغيض ، فقال : يا سيدي : نريد كلمة ننقلها عنك ، أيما أفضل أبو بكر أو علي ؟ فقال : اجلس ، فجلس ، ثم قام ، فأعاد مقالته ، فأقعده ، ثم قام ، فقال : اقعد ، فأنت أفضل من كل أحد .
وسأله آخر أيام ظهور الشيعة ، فقال : أفضلهما من كانت بنته تحته .
وهذه عبارة محتملة ترضي الفريقين .
وسأله آخر : أيما أفضل : أسبح أو أستغفر ؟ قال : الثوب الوسخ أحوج إلى الصابون من البخور .
وقال في حديث أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين إنما طالت أعمار الأوائل لطول البادية فلما شارف الركب بلد الإقامة ، قيل : حثوا المطي . وقال : من قنع ، طاب عيشه ، ومن طمع ، طال طيشه .
وقال يوما في وعظه : يا أمير المؤمنين ، إن تكلمت ، خفت منك ، وإن سكت ، خفت عليك ، وأنا أقدم خوفي عليك على خوفي منك ، فقول الناصح : اتق الله خير من قول القائل : أنتم أهل بيت مغفور لكم .
قال : يفتخر فرعون مصر بنهر ما أجراه ، ما أجرأه ! .
وهذا باب يطول ، ففي كتبه النفائس من هذا وأمثاله .
وجعفر الذي هو جده التاسع : قال ابن دحية : جعفر هو الجوزي ، نسب إلى فرضة من فرض البصرة يقال لها : جوزة . وقيل : كان في داره جوزة لم يكن بواسط جوزة سواها . وفرضة النهر ثلمته ، وفرضة البحر محط السفن .
قال أبو المظفر جدي قرأ القرآن ، وتفقه على أبي بكر الدينوري الحنبلي ، وابن الفراء .
قلت : وقرأ القرآن على سبط الخياط .
وعني بأمره شيخه ابن الزاغوني ، وعلمه الوعظ ، واشتغل بفنون العلوم ، وأخذ اللغة عن أبي منصور بن الجواليقي ، وربما حضر مجلسه مائة ألف ، وأوقع الله له في القلوب القبول والهيبة .
قال وكان زاهدا في الدنيا ، متقللا منها ، وكان يجلس بجامع القصر والرصافة وبباب بدر وغيرها . إلى أن قال : وما مازح أحدا قط ، ولا لعب مع صبي ، ولا أكل من جهة لا يتيقن حلها .
وقال أبو عبد الله بن الدبيثي في "تاريخه" شيخنا جمال الدين صاحب التصانيف في فنون العلوم من التفسير والفقه والحديث والتواريخ وغير ذلك . وإليه انتهت معرفة الحديث وعلومه ، والوقوف على صحيحه من سقيمه ، وكان من أحسن الناس كلاما ، وأتمهم نظاما ، وأعذبهم لسانا ، وأجودهم بيانا . تفقه على الدينوري ، وقرأ الوعظ على أبي القاسم العلوي ، وبورك له في عمره وعلمه ، وحدث بمصنفاته مرارا ، وأنشدني بواسط لنفسه: يا ســاكن الدنيا تأهب
وانتظــر يـوم الفراق وأعـــد زادا للرحـيل
فســوف يُحدى بالرفاق وابــك الذنـوب بأدمع
تنهـل مـن سحب المآقي يـا مـن أضـاع زمانه
أرضيـت مـا يفنى بباق
وسألته عن مولده غير مرة ، ويقول : يكون تقريبا في سنة عشر وسألت أخاه عمر ، فقال : في سنة ثمان وخمس مائة تقريبا .
ومن تواليفه "التيسير في التفسير" مجلد ، "فنون الأفنان في علوم القرآن" مجلد ، "ورد الأغصان في معاني القرآن" مجلد ، "النبعة في القراءات السبعة" مجلد ، "الإشارة في القراءات المختارة" جزء ، "تذكرة المنتبه في عيون المشتبه" ، "الصلف في المؤتلف والمختلف" مجلدان ، "الخطأ والصواب من أحاديث الشهاب" مجلد ، "الفوائد المنتقاة" ستةٌ وخمسون جزءا .
"أسود الغابة في معرفة الصحابة" ، "النقاب في الألقاب" مجيليد ، "المحتسب في النسب" مجلد ، "المدبج" مجلد ، "المسلسلات" مجيليد ، "أخاير الذخاير" مجلد ، "المجتنى" مجلد ، "آفة المحدثين" جزء "المقلق" مجلد ، "سلوة المحزون في التاريخ" مجلدان ، "المجد العضدي" مجلد ، "الفاخر في أيام الناصر" مجلد ، "المضيء بفضل المستضيء" مُجَيْلِيد ، "الأعاصر في ذكر الإمام الناصر" مجلد ، "الفجر النوري" مجلد "المجد الصلاحي" مجلد ، "فضائل العرب" مجلد ، "كف التشبيه بأكف أهل التنزيه" مجيليد.
"البدايع الدالة على وجود الصانع" مجيليد ، "منتقد المعتقد" جزء ، "شرف الإسلام" جزء ، "مسبوك الذهب في الفقه" مجلد ، "البلغة في الفقه" مجلد ، "التلخيص في الفقه" مجلد ، "الباز الأشهب" مجلد ، "لقطة العجلان ' مجلد ، "الضيا في الرد على إلكيا" مجلد ، "الجدل" ثلاثة أجزاء ، "درء الضيم في صوم يوم الغيم" جزء ، "المناسك" ، جزء "تحريم الدبر" جزء ، "تحريم المتعة" ، جزء "العدة في أصول الفقه" جزء ، "الفرائض" جزء ، "قيام الليل" ثلاثة أجزاء ، "مناجزة العمر" جزء ، "الستر الرفيع" جزء ، "ذم الحسد" جزء ، "ذم المسكر" مجلد ، "ذكر القصاص" مجلد ، "الحفاظ" مجلد ، "الآثار العلوية" مجلد ، "السهم المصيب" جزآن .
"حال الحلاج" جزآن ، "عطف الأمراء على العلماء" جزآن ، "فتوح الفتوح" جزآن ، "إعلام الأحياء بأغلاط الإحياء" جزآن ، "الحث على العلم" مجلد ، "المستدرك على ابن عقيل" جزء ، "لفتة الكبد" جزء ، "الحث على طلب الولد" جزء ، "لقط المنافع في الطب" مجلدان ، "طب الشيوخ" جزء ، "المرتجل في الوعظ" مجلد ، "اللطائف" مجلد ، "التحفة" مجلد ، "المقامات" مجلد ، "شاهد ومشهود" مجلد ، "الأرج" مجلد ، "مغاني ، المعاني" مجيليد ، "لقط الجمان" جزآن ، "زواهر الجواهر" مجيليد ، "المجالس البدرية" مجيليد ، "يواقيت الخطب" جزآن ، "لآلئ الخطب" جزآن ، "خطب الجمع" ثلاثة أجزاء ، "المواعظ السلجوقية" ، "اللؤلؤة" ، "الياقوتة" ، "تصديقات رمضان" ، "التعازي الملوكية" ، "روح الروح" ، "كنوز الرموز" . وقيل : نيفت تصانيفه على الثلاث مائة .
ومن كلامه : ما اجتمع لامرئ أمله إلا وسعى في تفريطه أجله .
وقال عن واعظ : احذروا جاهل الأطباء ، فربما سمَّى سمّا ، ولم يعرف المسمى .
وكان في المجلس رجل يحسن كلامه ، ويزهره له ، فسكت يوما ، فالتفت إليه أبو الفرج ، وقال : هارون لفظك معين لموسى نطقي ، فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا
وقال يوما : أهل الكلام يقولون : ما في السماء رب ، ولا في المصحف قرآن ، ولا في القبر نبي ، ثلاث عورات لكم .
وحضر مجلسه بعض المخالفين ، فأنشد على المنبر : ما للهوى العذري في ديارنا
أيـن العـذيب من قصور بابل
وقال -وقد تواجد رجل في المجلس- : واعجبا ، كلنا في إنشاد الضالة سواء ، فَلِم وجدت أنت وحدك؟ قــد كتمتُ الحب حتى شفَّني
وإذا مـــا كُتِــمَ الداءُ قتل بيـن عينيـك علالات الكرَى
فـدع النـوم لربـات الحجـل
وقد سقت من أخبار الشيخ أبي الفرج كراسة في "تاريخ الإسلام".
وقد ناله محنة في أواخر عمره ، ووشوا به إلى الخليفة الناصر عنه بأمر اختلف في حقيقته ، فجاء من شتمه ، وأهانه ، وأخذه قبضا باليد ، وختم على داره ، وشتت عياله ، ثم أُقعد في سفينة إلى مدينة واسط ، فحُبس بها في بيت حرج ، وبقي هو يغسل ثوبه ، ويطبخ الشيء ، فبقي على ذلك خمس سنين ما دخل فيها حماما . قام عليه الركن عبد السلام بن عبد الوهاب ابن الشيخ عبد القادر ، وكان ابن الجوزي لا ينصف الشيخ عبد القادر ، ويغض من قدره ، فأبغضه أولاده ، ووزر صاحبهم ابن القصاب ، وقد كان الركن رديء المعتقد ، متفلسفا ، فأحرقت كتبه بإشارة ابن الجوزي ، وأخذت مدرستهم ، فأعطيت لابن الجوزي ، فانسمَّ الركن .
وقد كان ابن ، القصاب الوزير يترفض ، فأتاه الركن ، وقال : أين أنت عن ابن الجوزي الناصبي ؟ ، وهو أيضا من أولاد أبي بكر ، فصرَّف الركن في الشيخ ، فجاء ، وأهانه ، وأخذه معه في مركب ، وعلى الشيخ غلالة بلا سراويل ، وعلى رأسه تخفيفة ، وقد كان ناظر واسط شيعيا أيضا ، فقال له الركن : مكنِّي من هذا الفاعل لأرميه في مطمورة ، فزجره ، وقال : يا زنديق ، أفعل هذا بمجرد قولك ؟ هات خط أمير المؤمنين ، والله لو كان على مذهبي ، لبذلت روحي في خدمته ، فرد الركن إلى بغداد .
وكان السبب في خلاص الشيخ أنّ ولده يوسف نشأ واشتغل ، وعمل في هذه المدة الوعظ وهو صبي ، وتوصل حتى شفعت أم الخليفة ، وأطلقت الشيخ ، وأتى إليه ابنه يوسف ، فخرج ، وما رد من واسط حتى قرأ هو وابنه بتلقينه بالعشر على ابن الباقلاني ، وسن الشيخ نحو الثمانين ، فانظر إلى هذه الهمة العالية .
نقل هذا الحافظ ابن نقطة عن القاضي محمد بن أحمد بن حسن .
قال الموفق عبد اللطيف في تأليف له : كان ابن الجوزي لطيف الصورة ، حلو الشمائل ، رخيم النغمة ، موزون الحركات والنغمات ، لذيذ المفاكهة ، يحضر مجلسه مائة ألف أو يزيدون ، لا يضيع من زمانه شيئا ، يكتب في اليوم أربع كراريس ، وله في كل علم مشاركة ، لكنه كان في التفسير من الأعيان ، وفي الحديث من الحفاظ ، وفي التاريخ من المتوسعين ، ولديه فقه كاف ، وأما السجع الوعظي ، فله فيه ملكة قوية ، وله في الطب كتاب "اللقط" مجلدان .
قال : وكان يراعي حفظ صحته ، وتلطيف مزاجه ، وما يفيد عقله قوة ، وذهنه حدة . جل غذائه الفراريج والمزاوير ، ويعتاض عن الفاكهة بالأشربة والمعجونات ، ولباسه أفضل لباس : الأبيض الناعم المطيب ، وله ذهن وقاد ، وجواب حاضر ، ومجون ومداعبة حلوة ، ولا ينفك من جارية حسناء ، قرأت بخط محمد بن عبد الجليل الموقاني أن ابن الجوزي شرب البلاذر ، فسقطت لحيته ، فكانت قصيرة جدا ، وكان يخضبها بالسواد إلى أن مات .
قال : وكان كثير الغلط فيما يصنفه ، فإنه كان يفرغ من الكتاب ولا يعتبره.
قلت : هكذا هو له أوهام وألوان من ترك المراجعة ، وأخذ العلم من صحف ، وصنف شيئا لو عاش عمرا ثانيا ، لما لحق أن يحرره ويتقنه .
قال سبطه جلس جدي تحت تربة أم الخليفة عند معروف الكرخي ، وكنت حاضرا ، فأنشد أبياتا ، قطع عليها المجلس وهي : الله أســأل أن يطــول مــدتي
لأنـال بالإنعـام مـا فـي نيتـي لـي همـة فـي العلم ما إن مثلها
وهي التي جـنت النحول هي التي خلقت من العلق العظيم إلى المنى
دعيـت إلـى نيـل الكمال فلبـت كم كان لي من مجـلس لو شبهت
حالاتـه لتشــبهت بالجنـــة أشتاقه لمــا مضــت أيامــه
عُـطلا وتعـذر ناقـة إن حـنَّتِ يا هـل للــيلات بجـمع عـودة
أم هـل على وادي منى من نظرةِ قـد كان أحلى من تصاريف الصبا
ومـن الحمـام مغنيـا في الأيكةِ فيــه البديهـات التـي مـا نالها
خلق بغـير مخــمر ومبيــت في أبيات .
ونزل ، فمرض خمسة أيام ، وتوفي ليلة الجمعة بين العشاءين الثالث عشر من رمضان سنة سبع وتسعين وخمس مائة في داره بقطفتا . وحكت لي أمي أنها سمعته يقول قبل موته : أيش أعمل بطواويس ؟ يرددها ، قد جبتم لي هذه الطواويس .
وحضر غسله شيخنا ابن سكينة وقت السحر ، وغلقت الأسواق ، وجاء الخلق ، وصلى عليه ابنه أبو القاسم علي اتفاقا ، لأن الأعيان لم يقدروا من الوصول إليه ، ثم ذهبوا به إلى جامع المنصور، فصلوا عليه ، وضاق بالناس ، وكان يوما مشهودا ، فلم يصل إلى حفرته بمقبرة أحمد إلى وقت صلاة الجمعة ، وكان في تموز ، وأفطر خلق ، ورموا نفوسهم في الماء . إلى أن قال : وما وصل إلى حفرته من الكفن إلا قليل ، كذا قال ، والعهدة عليه وأنزل في الحفرة ، والمؤذن يقول الله أكبر ، وحزن عليه الخلق ، وباتوا عند قبره طول شهر رمضان يختمون الختمات ، بالشمع والقناديل ، ورآه في تلك الليلة المحدث أحمد بن سلمان السكَّر في النوم وهو على منبر من ياقوت ، وهو جالس في مقعد صدق والملائكة بين يديه .
وأصبحنا يوم السبت عملنا العزاء ، وتكلمت فيه ، وحضر خلق عظيم ، وعملت فيه المراثي ومن العجائب أنا كنا بعد انقضاء العزاء يوم السبت عند قبره ، وإذا بخالي محيي الدين قد صعد من الشط ، وخلفه تابوت ، فقلنا : نرى من مات ، وإذا بها خاتون أم محيي الدين ، وعهدي بها ليلة وفاة جدي في عافية ، فعد الناس هذا من كراماته ، لأنه كان مغري بها . وأوصى جده أن يكتب على قبره : يـا كثـير العفـو عمـن
كـــثر الــذنب لديــه جـاءك المذنب يرجو الـ
ـصفـح عـن جـرم يديـه أنـا ضيـف وجـزاء الـ
ـضيــف إحســان إليـه
أخبرنا عبد الحافظ بن بدران ، أخبرنا الإمام موفق الدين عبد الله بن أحمد ، حدثنا أبو الفرج عبد الرحمن بن علي ، أخبرنا يحيى بن ثابت ، أخبرنا أبي ، حدثنا أبو بكر البرقاني ، أخبرنا أحمد بن إبراهيم ، أخبرنا ابن عبد الكريم الوزان ، حدثنا الحسن بن علي الأزدي ، حدثنا علي بن المديني ، حدثني أحمد بن حنبل ، حدثنا علي بن عياش الحمصي ، حدثنا شعيب بن أبي حمزة ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر ، قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة ، والصلاة القائمة ، آت محمدا الوسيلة والفضيلة ، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته ، حلت له الشفاعة .
وأنبأناه عاليا بدرجات عبد الرحمن بن محمد ، أخبرنا عمر بن طبرزد ، أخبرنا هبة الله بن الحصن ، أخبرنا محمد بن محمد ، أخبرنا أبو بكر الشافعي ، أخبرنا إبراهيم بن الهيثم البلدي ، حدثنا على بن عياش مثله ، لكن زاد فيه : إلا حلت له الشفاعة يوم القيامة فكأن شيخي سمعه من أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي الفقيه .
وكتب إلي أبو بكر بن طرخان ، أخبرنا الإمام موفق الدين ، قال : ابن الجوزي إمام أهل عصره في الوعظ ، وصنف في فنون العلم تصانيف حسنة ، وكان صاحب فنون ، كان يصنف في الفقه ، ويدرس ، وكان حافظا للحديث ، إلا أننا لم نرض تصانيفه في السنّة ، ولا طريقته فيها ، وكانت العامة يعظمونه ، وكانت تنفلت منه في بعض الأوقات كلمات تنكر عليه في السنة ، فيستفتى عليه فيها ، ويضيق صدره من أجلها .
وقال الحافظ سيف الدين ابن المجد هو كثير الوهم جدا ، فإن في مشيخته مع صغرها أوهاما : قال في حديث : أخرجه البخاري ، عن محمد بن المثنى ، عن الفضل بن هشام ، عن الأعمش ، وإنما هو عن الفضل بن مساور ، عن أبي عوانة ، عن الأعمش . وقال في آخر : أخرجه البخاري ، عن عبد الله بن منير ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، وبينهما أبو النضر ، فأسقطه . وقال في حديث : أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد الأثرم ،وإنما هو محمد بن أحمد . وقال في آخر : أخرجه البخاري عن الأويسي ، عن إبراهيم ، عن الزهري ، وإنما هو عن إبراهيم بن سعد ، عن صالح ، عن الزهري . وقال في آخر : حدثنا قتيبة ، حدثنا خالد بن إسماعيل ، وإنما هو حدثنا حاتم . وفي آخر : حدثنا أبو الفتح محمد بن علي العشاري ، إنما هو أبو طالب . وقال : حميد بن هلال ، عن عفان بن كاهل ، وإنما هو هِصّان بن كاهل . وقال : أخرجه البخاري ، عن أحمد بن أبي إياس ، وإنما هو آدم . وفي وفاة يحيى بن ثابت ، وابن خضير ، وابن المقرب ذكر ما خولف فيه قلت : هذه عيوب وحشة في جزئين .
قال السيف : سمعت ابن نقطة يقول : قيل لابن الأخضر : ألا تجيب عن بعض أوهام ابن الجوزي ؟ قال : إنما يتتبع على من قل غلطه ، فأما هذا ، فأوهامه كثيرة .
ثم قال السيف : ما رأيت أحدا يعتمد عليه في دينه وعلمه وعقله راضيا عنه.
قلت : إذا رضي الله عنه فلا اعتبار بهم .
قال : وقال جدي كان أبو المظفر بن حمدي ينكر على أبي الفرج كثيرا كلمات يخالف فيها السنة .
قال السيف : وعاتبه أبو الفتح بن المَنِّي في أشياء ، ولما بان تخليطه أخيرا ، رجع عنه أعيان أصحابنا وأصحابه .
وكان أبو إسحاق العلثي يكاتبه ، وينكر عليه .
أنبأني أبو معتوق محفوظ بن معتوق ابن البزوري في "تاريخه" في ترجمة ابن الجوزي يقول : فأصبح في مذهبه إماما يشار إليه ، ويعقد الخنصر في وقته عليه ، درس بمدرسة ابن الشمحل وبمدرسة الجهة بنفشا وبمدرسة الشيخ عبد القادر وبنى لنفسه مدرسة بدرب دينار ووقف عليها كتبه برع في العلوم ، وتفرد بالمنثور والمنظوم ، وفاق علي أدباء مصره ، وعلا على فضلاء عصره ، تصانيفه تزيد على ثلاث مائة وأربعين مصنفا ما بين عشرين مجلدا إلى كراس ، وما أظن الزمان يسمح بمثله ، وله كتاب "المنتظم" ، وكتابنا ذيل عليه
قال سبطه أبو المظفر خلف من الولد عليا ، وهو الذي أخذ مصنفات والده ، وباعها بيع العبيد ، ولمن يزيد ، ولما أحدر والده إلى واسط ، تحيل على الكتب بالليل ، وأخذ منها ما أراد ، وباعها ولا بثمن المداد ، وكان أبوه قد هجره منذ سنين ، فلما امتحن ، صار أَلَبًا عليه .
وخلف يوسف محيي الدين ، فولي حسبة بغداد في سنة أربع وست مائة ، وترسل عن الخلفاء إلى أن ولي في سنة أربعين أستاذ دارية الخلافة . وكان لجدي ولد أكبر أولاده اسمه عبد العزيز ، سمعه من الأرموي وابن ناصر ، ثم سافر إلى الموصل ، فوعظ بها ، وبها مات شابا وكان له بنات : رابعة أمي ، وشرف النساء ، وزينب ، وجوهرة ، وست العلماء الصغيرة .
خلع حاجي بن محمد بن قلاوون (الملك المظفر):
ومن حوادث اليوم الثاني عشر من رمضان من سنة 748 خلع حاجي بن محمد ابن قلاوون الملقب بالملك المظفر سيف الدين ابن الناصر ابن المنصور
ولد في الحجاز سنة 732هـ (الدرر الكامنة 2/101) وقد تولى السلطنة بعد أخيه الكامل سنة 747 هـ ، واتفق رخص الأسعار أول ما ولي ، ولكنه لم يلبث أن انغمس في الشهوات والملذات ، وأقبل على اللهو والشغف بالنساء ، حتى بلغت قيمة عصبة حظيته (اتفاق) التي على رأسها مائة ألف دينار ، وبلغت النفقة على عمل حظير الحمام سبعين ألف درهم ، وصار ـ كما يقول ابن حجر في الدرر الكامنة ـ يحضر الأوباش بين يديه يلعبون بالصراع وغيره.
وكان يقف مع مطيري الحمام ـ النجوم الزاهرة (10/171) ـ ويراهن على الطير الفلاني والطيرة الفلانية.
وبينما هو ذات يوم معهم عند حظير الحمام وقد سيبها إذ أذن العصر بالقلعة والقرافة ، فجفلت الحمام عن مقاصيرها وتطايرت ، فغضب وبعث إلى المؤذنين يأمرهم أنهم إذا رأو الحمام لا يرفعون أصواتهم !!
وكان يلعب مع العوام ، وإذا لعب يتعرى ويلبس تبان جلد ، ويلعب بالرمح والكرة ، وصار يتباهى بما لا يليق به أن يفعله .
ثم أخذ مع ذلك كله في التدبير على قتل أخيه حسين ، وأرصد له عدة خدام ليهجموا عليه عند إمكان الفرصة ،
واستعدى كبار القواد عليه ، فأخذوا في التدبير ضده ، ثم تجمعوا على أبوب قصر الملك المظفر عند قبة النصر ، وراسلوه وكتبوا له يبينون سبب تجمهرهم : (قتلت ممالك أبيك وأخذت أموالهم وهتكت حريمهم وعزمت على الفتك بمن بقي، وأنت أول من حلف أنك لا تخون الأمراء ولا تخرب بين أحد)!!
فرد الرسول يستخبرهم عما يريده الإمراء من الملك المظفر حتى يفعله لهم، فقالوا وعلى رأسهم كبير القواد بيبغاروس:
ـ لا بد أن يسجن وأن يسلطنوا غيره . فقال :
ـ ما أموت إلا على ظهر فرسي
ثم عبأ من معه، وكانوا قلة تخلى عنه أكثرهم آخر الأمر ، فلما رأى انهزام جنده ولحوقهم بالثائرين عليه ، ولى وانهزم ، فتبعوه وأدركوه وأمسكوا به ،وساقوه إلى تربة آق سنقر في القاهرة تحت الجبل ، و ذبحوه من ساعته ، قبيل عصر يوم الأحد ثاني عشر شهر رمضان سنة 748
ويقال : إنهم لما أرادوا ذبحه قال لهم : بالله لا تستعجلوا علي. خلوني ساعة!
فقالوا : كيف استعجلت أنت على قتل الناس. لو صبرت عليهم صبرنا عليك.
ثم قتلوه. وقال الشيخ صلاح الدين العصفري :
أيها العاقل اللبيب تفكر في المليك المظفر الضرغام
كم تمادى في البغي والغي حتى كان لعب الحمام حد الحمام
وفاة النحوي ابن مالك صاحب الألفية:
وممن توفي في يوم الثاني عشر من رمضان الإمام ابن مالك صاحب الألفية المعروفة به (ألفية ابن مالك)
وابن مالك هو الشيخ جمال الدين محمد بن عبد الله بن مالك أبو عبد الله الطائي الحياني النحوي صاحب التصانيف الشهيرة المفيدة منها الكافية الشافية وشرحها، والتسهيل وشرحه ، والألفية التي شرحها ولده بدر الدين شرحاً مفيداً
يقول ابن كثير ( البداية 13/267 ) ولد بحيان (قرية قرب حلب) سنة 600، وأقام بحلب مدة ، ثم بدمشق وكان كثير الاجتماع بابن خلكان وأثنى عليه غير واحد.
توفي ابن مالك بدمشق ليلة الأربعاء ثاني عشر رمضان ، ودفن بمقربة القاضي عز الدين بن الصائغ بقاسيون.
المولد والنشأة
في مدينة "جيَّان" بالأندلس وُلِد محمد بن عبد الله بن مالك الطائي سنة (600هـ = 1203م)، وكانت الأندلس تمرُّ بفترة من أحرج فترات تاريخها؛ حيث تساقطت قواعدها وحواضرها في أيدي القشتاليين النصارى. ولا يُعرف كثير عن حياته الأولى التي عاشها في الأندلس قبل أن يهاجر مع مَن هاجر إلى المشرق الإسلامي بعد سقوط المدن الأندلسية، ولا شك أنه حفظ القرآن الكريم، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة قبل أن يتردد على حلقات العلم في بلده، ويحفظ لنا "المقري" في كتابه المعروف "نفح الطيب" بعض أسماء شيوخ ابن مالك الذين تلقى العلم على أيديهم، فذكر أنه أخذ العربية والقراءات على ثابت بن خيار، وأحمد بن نوار، وهما من شيوخ العلم وأئمته في الأندلس.
الهجرة إلى المشرق
هاجر ابن مالك إلى المشرق الإسلامي في الفترة التي كانت تتعرَّض قواعد الأندلس لهجمات النصارى، وكان الاستيلاء على "جيان" مسقط رأس ابن مالك من أهداف ملك قشتالة، وكانت مدينة عظيمة حسنة التخطيط، ذات صروح شاهقة، وتتمتع بمناعة فائقة بأسوارها العالية، وقد تعرَّضت لحصار من النصارى سنة (327هـ = 1230م)، لكنها لم تسقط في أيديهم. وأرجح أن يكون ابن مالك قد هاجر عقب فشل هذا الحصار إلى الشام، وهناك استكمل دراسته، واتصل بجهابذة النحو والقراءات، فتتلمذ في دمشق على "علم الدين السَّخاوي" شيخ الإقراء في عصره، و"مكرم بن محمد القرشي"، و"الحسن بن الصباح"، ثم اتجه إلى "حلب"، وكانت من حواضر العلماء، ولزم الشيخ "موفق الدين بن يعيش" أحد أئمة النحو في عصره، وجالس تلميذه "ابن عمرون".
وقد هيأت له ثقافته الواسعة ونبوغه في العربية والقراءات أن يتصدر حلقات العلم في حلب، وأن تُشَدّ إليه الرِّحال، ويلتف حوله طلاب العلم، بعد أن صار إمامًا في القراءات وعِلَلها، متبحِّرًا في علوم العربية، متمكنًا من النحو والصرف لا يباريه فيهما أحد، حافظًا لأشعار العرب التي يُستشهد بها في اللغة والنحو.
ثم رحل إلى "حماة" تسبقه شهرته واستقر بها فترة، تصدَّر فيها دروس العربية والقراءات، ثم غادرها إلى القاهرة، واتصل بعلمائها وشيوخها، ثم عاد إلى دمشق، وتصدر حلقات العلم في الجامع الأموي، وعُيِّن إمامًا بالمدرسة "العادلية الكبرى"، وولِّي مشيختها، وكانت تشترط التمكن من القراءات وعلوم العربية، وظلَّ في دمشق مشتغلاً بالتدريس والتصنيف حتى تُوفِّي بها.
تلاميذه
تبوأ ابن مالك مكانة مرموقة في عصره، وانتهت إليه رئاسة النحو والإقراء، وصارت له مدرسة علمية تخرَّج فيها عدد من النابغين، كانت لهم قدم راسخة في النحو واللغة، ومن أشهر تلاميذه: "بدر الدين بن جماعة" قاضي القضاة في مصر، و"أبو الحسن اليونيني" المحدِّث المعروف، و"ابن النحاس" النحوي الكبير، و"أبو الثناء محمود الحلبي" كاتب الإنشاء في مصر ودمشق، وابنه "بدر الدين"، وقد خلف أباه في وظائفه، وشرح ألفية والده.
مؤلفاته
كان ابن مالك غزير الإنتاج، تواتيه موهبة عظيمة ومقدرة فذَّة على التأليف، فكتب في النحو واللغة والعروض والقراءات والحديث، واستعمل النثر في التأليف، كما استخدم الشعر في بعض مؤلفاته، ومن أشهر كتبه في النحو: "الكافية الشافية"، وهي أرجوزة طويلة في قواعد والصرف، وكتاب "تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد" جمع فيه بإيجاز قواعد النحو مع الاستقصاء؛ بحيث أصبح يُغني عن المطوَّلات في النحو، وقد عُنِي النحاة بهذا الكتاب، ووضعوا له شروحًا عديدة.
وله في اللغة: "إيجاز التصريف في علم التصريف"، و"تحفة المودود في المقصور والممدود"، و"لاميات الأفعال"، و"الاعتضاد في الظاء والضاد".
وله في الحديث كتاب "شواهد التوضيح لمشكلات الجامع الصحيح"، وهو شروح نحوية لنحو مائة حديث من صحيح البخاري.
ألفية ابن مالك
والألفية هي أشهر مؤلفات ابن مالك حتى كادت تطغى بشهرتها على سائر مؤلفاته، وقد كتب الله لها القبول والانتشار، وهي منظومة شعرية من بحر "الرجز"، تقع في نحو ألف بيت، وتتناول قواعد النحو والصرف ومسائلهما من خلال النظم بقصد تقريبهما، وتذليل مباحثهما، وقد بدأها بذكر الكلام وما يتألف منه، ثم المعرب والمبني من الكلام، ثم المبتدأ والخبر، ثم تتابعت أبواب النحو بعد ذلك، ثم تناول أبواب الصرف، وختم الألفية بفصل في الإعلال بالحذف، وفصل في الإدغام.
ومن نظمه ما قاله في الكلام وما يتألف منه:
كَلامُنَا لَفْظٌ مُفِيدٌ كَاسْتَقِم
واسْمٌ وَفِعْلٌ، ثمَّ حَرْفٌ - الكَلِمْ
واحدُهُ كلِمَةٌ والقَوْل عَـمْ
وكِلْمَةٌ بها كـلامٌ قـد يُؤَمْ
بالجَرِّ والتَنْوِين والنِّدَا، وَأَلْ
وَمُسْنَدٍ للاسْم تَمييزٌ حَصَلْ
بتا فَعَلْتُ وَأَتت ويا افْعَلِي
ونُونِ أَقْبِلَنَّ فِعْلٌ يَنْـجَلِي
التزم ابن مالك في الألفية المنهج الاختياري الانتقائي، الذي يقوم على المزج بين مذاهب النحاة دون ميل أو انحياز، والتخير منها والترجيح بينها، وهو منهج التزمه في مؤلفاته كلها. كما توسَّع في الاستشهاد بالحديث النبوي، واتخذه أساسًا للتقعيد النحوي إلى جانب الاستشهاد بالقرآن الكريم بقراءاته المختلفة وأشعار العرب.
يُذكر لابن مالك أنه وضع عناوين جديدة لبعض مسائل النحو، لم يستخدمها أحد قبله من النحاة، مثل باب "النائب عن الفاعل"، وكان جمهور النحاة قبله يسمُّونه: "المفعول الذي لم يُسمَّ فاعله"، و"البدل المطلق" بدلاً من قولهم "بدل كل من كل"، و"المعرف بأداة التعريف" بدلاً من "التعريف بأل".
شروح الألفية
ولقد لقيت ألفية ابن مالك عناية كبيرة من العلماء، فقام بعضهم بشرحها وإعراب أبياتها، أو وضع حواشٍ وتعليقات عليها، وقد زاد عدد شرَّاح الألفية على الأربعين، من بينهم ابن مالك نفسه، وابنه "محمد بدر الدين" المتوفَّى سنة (686هـ = 1287م)، غير أن أشهر شروح الألفية وأكثرها ذيوعًا هي:
- أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك: للنحوي الكبير جمال الدين بن هشام الأنصاري المتوفَّى سنة (761هـ = 1359م)، وقد حقَّق هذا الكتاب العالم الجليل محمد محيي الدين عبد الحميد، وصنع له شرحًا باسم "عدة السالك إلى تحقيق أوضح المسالك"، في أربعة مجلدات، وقد رُزِق الكتاب وشرحه القبول، فأقبل عليه طلاب العلم ينهلون منه حتى يومنا هذا.
غلاف كتاب شرح ابن عقيل
- شرح ابن عقيل لقاضي القضاة بهاء الدين عبد الله بن عقيل، المتوفَّى سنة (769هـ = 1367م)، وهو يمتاز بالسهولة وحسن العرض، وقد حقَّق الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد هذا الكتاب، ونشره في أربعة أجزاء مع تعليقه عليه بعنوان "منحة الجليل بتحقيق شرح ابن عقيل"، وقد لقي هذا الشرح قبولاً واسعًا، ودرسه طلبة الأزهر في المرحلة الثانوية.
- "منهج السالك إلى ألفية ابن مالك" المعروف بـ"شرح الأشموني"، لأبي الحسن علي نور الدين بن محمد عيسى، المعروف بالأشموني، المتوفَّى سنة (929هـ = 1522م)، وهذا الشرح يُعَدّ من أكثر كتب النحو تداولاً بين طلبة العلم من وقت تصنيفه إلى الآن، وهو من أغزر شروح الألفية مادة، وأكثرها استيعابًا لمسائل النحو ومذاهب النحاة.
وبلغت العناية بأبيات الألفية أن قام بعض العلماء بإعرابها مثلما فعل الإمام "خالد الأزهري" المتوفَّى سنة (905هـ = 1499م) في كتابه "تمرين الطلاب في صناعة الإعراب"، كما قام بعض العلماء بشرح شواهد شروح الألفية، مثلما فعل "بدر الدين العيني" المتوفَّى سنة (855 هـ = 1451م) في كتابه "المقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية".
وفاة ابن مالك
كان ابن مالك إمامًا، زاهدًا، ورعًا، حريصًا على العلم وحفظه، حتى إنه حفظ يوم وفاته ثمانية أبيات من الشعر، واشتهر بأنه كثير المطالعة سريع المراجعة، لا يكتب شيئًا من محفوظه حتى يراجعه في مواضعه من الكتب، وكان لا يُرى إلا وهو يُصلِّي أو يتلو القرآن الكريم، أو يصنف أو يُقرِئ القرآن تلاميذه، وظلَّ على هذه الحالة حتى تُوفِّي في (12 من شعبان 672هـ = 21 من فبراير 1274م) في دمشق، وصُلِّي عليه بالجامع الأموي.
بناء جامع ابن طولون بالقاهرة:
في الثاني عشر من شهر رمضان عام 265هـ الموافق 7 مايو 879م ، بني جامع ابن طولون في القاهرة.
يقع الجامع الشهير بشارع الصليبة. إذا كان جامع السيدة زينب بآخر شارع بورسعيد إلى يمينك وبعده بأمتار إلى يمينك أيضاً قسم السيدة زينب يواجهك شارع جانبي يبدو صغيراً. هذا الشارع الصغير هو شارع عبد المجيد اللبان الذي يمتد ليصبح شارع الصليبة الواسع. بعد أكثر من أثر، تجد ساحة على يمينك يطل عليها جامع ابن طولون الجميل.
أرسل الخليفة العباسي المقيم في العاصمة، سامراء في هذا الوقت، أحمد ابن طولون ليكون حاكم مصر في عام 868م فوصل مصر وأصبح أحد الحكام شبه المستقلين عن سلطة الخلافة العباسية في العالم الإسلامي. وصل الحاكم الجديد ليجد أن المدن الإسلامية السابقة عليه في هذا البلد (الفسطاط مدينة عمرو بن العاص والعسكر المدينة العباسية الأولى) لن تتسعا له ولقواته ولهذا أنشأ مدينته الجديدة، القطائع، إلى الشمال الشرقي من الفسطاط والعسكر. وقفت المدينة الجديدة على تل يدعى جبل يَشكُر فكانت أعلى من العسكر وبعيدة عن الفسطاط، العاصمة السابقة التجارية والصناعية ذات الميناء المزدحم. كانت مدينة الحاكم الجديد على غرار مدن الحكم الإسلامية في ذلك الوقت. نقل ابن سامراء بعض معالم ثراء الدولة العباسية وتقاليدها.
يقول المؤرخون أن أحمد ابن طولون بنى قصراً كبيراً بحدائق واسعة ومضمار لسباق الخيل ولعب الكرة - لعبة تشبه لعبة البولو الحالية أحبها المماليك في مصر في ما بعد وكانت من أهم ما يستمتعون به - وألعاب الفروسية العباسية الأخرى. كان للمضمار بوابة كبيرة ذات ثلاثة أقواس. في المواكب والمراسم كان أحمد ابن طولون يدخل المضمار من قوس البوابة الأوسط تصاحبه قواته في صفين من الأقواس الجانبية. كان للمضمار بوابة أخرى، بوابة الأسود، التي وقف فوقها أسدان من الجص واعتلتها شرفة للحاكم ليشاهد المضمار. قام خمارويه ابن أحمد ابن طولون بإصلاحات عديدة في مدينة أبيه وعاش نفس الحياة المترفة ولكن في عام 905م ضاقت الدولة العباسية بالحكم الطولوني وأرسلت قواتها للقضاء عليه. خلال هذه الحملة، دمرت المدينة في ما عدا الجامع الكبير والقناطر.
جامع ابن طولون هو ثاني أقدم جامع في مصر بعد جامع عمرو. يطلق المؤرخون على جامع عمرو" الجامع العتيق" وهو اسم كاف لكي أحبه. لكن جامع ابن طولون هو أقدم جامع في مصر باق على حالته القديمة لأن جامع عمرو جرت به إصلاحات وتوسعات عديدة. بدأ إنشاء جامع ابن طولون عام 876م وقام السلطان المملوكي المنصور حسام الدين لاجين بعدة إصلاحات به في عام 1296-1297م. يتبع الجامع الطولوني سامراء العباسية في تخطيطه وزينته. يوجد في سامراء- أو كان يوجد قبل غزو العراق فقد عرفت أن أحد المآذن قد تضررت بشدة من قصف أمريكي ولا أعرف آخر أخبار الآثار الآن - بقايا جامعين من وقت كانت فيه عاصمة الخلافة. الجامعان هما جامع سامراء الكبير وجامع أبي دلف ويرجع تاريخ الاثنين إلى خلافة المتوكل في الفترة من 847 إلى 861م. جامع سامراء الكبير هو الأكبر في العالم الإسلامي القديم وكما هو الحال في جامع ابن طولون، كانت تحيطه زِيّادة. الزيادة هي سور من الحوائط يحيط الجامع بنفس ارتفاع حوائطه يوفر مساحة زائدة تصبح لها استخدامات عديدة مثل المخازن ودورات المياه والوضوء. زيادة ابن طولون تغطي ثلاثة أضلاع منه فقط (الأضلاع غير اتجاه القبلة). أحد أهم أدوار الزيادة في جامع ابن طولون، الذي تقوم به منذ إنشائه إلى الآن، هي انها تعزله عن ضوضاء الطريق. في جامعي سامراء وأبي دلف، كما في ابن طولون، تقف المئذنة خارج الجامع ويطلق عليها "ملوية" أي أن لها سلم خارجي يلفها بصورة دائرية. لا يتفق دارسو تاريخ الفن والعمارة الإسلامية على أصل شكل المئذنة الملوية ولكن يبدو أن له أصول في هذه المنطقة، أعني العراق وما حولها.
صورة لمئذنة جامع سمراء الكبير
صورة لمئذنة جامع أبي دلف
في جامع ابن طولون تقف الملوية داخل الزيادة بجزء سفلي مربع ثم ملوية دائرية تعلوها قمة مملوكية على شكل مبخرة كما هو الحال في المآذن المملوكية الأولى. تختلف مئذنة ابن طولون عن مآذن سامراء كذلك في أنها حجرية لا مبنية من الطوب. يتجادل المختصون حول هذه المئذنة. منهم من يرى أنها بأكملها من أعمال السلطان لاجين لكونها مبنية من الحجر بينما باقي الجامع مبني من الطوب ولقمتها المملوكية. ومنهم من يرى أن لاجين أصلحها على حالها لأن من الرحالة من ينقل لنا أن مئذنة الجامع كانت حجرية في القرن العاشر، أي قبل إصلاحات لاجين بثلاثة قرون. كما أن العمال في مصر، على عكس العراق، كانوا معتادين على استخدام الحجر منذ فجر التاريخ، لذلك لا يثبت استخدام الحجر أن المئذنة أحدث من الجامع. الأقرب إلى الأدلة التاريخية أن السلطان لاجين أصلح هذه المئذنة على حالها وأضاف لها قمة مملوكية.
صورة لمئذنة ابن طولون
يتبع الجامع تخطيط الأروقة التقليدي للجوامع في ذلك الوقت ولكن، كما هو الحال في جوامع سامراء، يقف على أعمدة مستطيلة مبنية من الطوب لا أعمدة رخامية كما كان معتاداً. يزين الجامع أكثر من محراب في رواق القبلة. المحراب الأساسي زينته مملوكية من عمل السلطان لاجين ويزينه فسيفساء تحمل الشهادة فقط ورخام ملون. صورة للمحراب.
في الجامع محاريب أخرى مسطحة، لا مقعرة كالمحراب الأساسي، ومنها محراب فاطمي على أحد الأعمدة من عمل الوزير الفاطمي الأفضل شاهنشاه ابن الوزير بدر الجمالي وكان الاثنان من وزراء الخليفة الفاطمي المستنصر بالله. زخرفة المحراب الفاطمية رائعة، ككل زخرفة فاطمية، ويحمل المحراب الشهادة الشيعية بإشارتها الواضحة إلى علي كرم الله وجهه. صورة للمحراب الفاطمي.
أنشأ لاجين الفوارة التي في وسط الصحن والتي كانت تستخدم للوضوء كذلك. كان في نفس المكان فوارة أصلية للجامع ذات قبة قائمة على أعمدة رخامية وكانت للزينة فقط لا الوضوء حيث كان يتوضأ المصلون في الزيادة خارج الجامع. صورة للفوارة المملوكية.
من أهم معالم الجامع، بجانب المئذنة، بقايا الزخارف الجصية ذات الطابع العباسي الصرف الذي ازدهر في سامراء والتي يبقى بعضها بداخل الأقواس مثل: 1 و 2 و 3
وعرائس السماء التي تزين أسوار الجامع وتبدو لعين الناظر الآن كما لو كانت تكبيراً لعرائس ورقية مقصوصة لأفراد يمسكون بأيدي بعضهم البعض ولسبب ما أراهم أنا سعداء جداً ولا أعرف لم يوحون لي بذلك. لا يعرف أحد التفسير لهذه الزينة ولم تتكرر في العالم الإسلامي ولا أدلة على وجود ما يماثلها قبلها. يرى بعض الدارسين أنها مجرد تكرار لبعض عناصر الزخارف العباسية الموجودة داخل أقواس الجامع ولكني لسبب ما لم أقتنع بذلك أبداً. يقول المؤرخون أن القاهرة الفاطمية كان بها عروض لخيال الظل وفي أحيان يبدو لي هذا متصلاً بصورة ما بهذه العرائس الطولونية السابقة على الفاطميين ولكن لا أفكار واضحة في ذهني حول ذلك.
يقول المؤرخون أن المهندس المعماري الذي تولى بناء الجامع قد رسم تخطيطاً للجامع وتصوراً عاماً له لكي يراه ابن طولون قبل البدء في البناء، وهو ما كان معتاداً في العالم الإسلامي في ذلك الوقت. معظم من بنوا في هذا العصر كان لهم كل الرأي في ما يبنى باسمهم. كانت دار الإمارة الخاصة بابن طولون تقع خلف حائط القبلة وتتصل بالجامع من خلال باب يقع بالقرب من المحراب. أتذكر أنني عندما قرأت ذلك أول مرة قلت في نفسي أنه قد تكون هذه الميزة من أهم ما تمتع به الحاكم ذو الأصل التركي. أن تفتح باباً من أبواب بيتك لتجد نفسك داخل جامع ابن طولون!
المصدر:
Doris Behrens-Abouseif, Islamic Architecture in Cairo: An Introduction (Cairo, 1989
قيام الدولة العباسية الثانية:
في الثاني من شهر رمضان عام 331هـ الموافق 9 مايو 943م دخل توزون بغداد من قبل ناصر الدولة ابن حمدان وقيام الدولة العباسية الثانية.
خريطة الدولة العباسية في ذروة امتداها
فتح أنطاكية:
في الثاني عشر من رمضان عام 666هـ الموافق 25 مايو 1268م ، فتحت أنطاكية على يد الظاهر بيبرس ، وإنطاكية كما هو معروف مدينة عربية في جنوب تركيا.
بعد مقتل السلطان قطز بطل معركة عين جالوت اتفق الأمراء المماليك على اختيار بيبرس سلطانًا على مصر، وجلس في إيوان القلعة في (19 من ذي القعدة 658هـ = 26 من أكتوبر 1260م) إيذانًا ببدء فترة التأسيس والاستقرار لدولة المماليك البحرية بعد فترة التحول التي شهدتها بعد قضائها على الحكم الأيوبي في مصر، وكانت فترة قلقة مليئة بالفتن والقلاقل، وكان على بيبرس أن يبدأ عهدًا جديدًا من الثبات والاستقرار بعد أن أصبح بيده مقاليد الأمور في مصر والشام.
الاستعداد لمواصلة الجهاد
وما إن جلس بيبرس على سدة الحكم في مصر حتى قضى على الفتن والثورات التي اشتعلت ضده، وقام بتنظيم شؤون دولته، وسعى لإيجاد سند شرعي تُحكم دولة المماليك باسمه، فأحيا الخلافة العباسية في القاهرة، واستقدم أحد الناجين من أسرة العباسيين بعد مذبحة هولاكو في بغداد، ويدعى أبا العباس أحمد، وعقد مجلسًا في القلعة في (8 من لمحرم 661هـ = 22 من نوفمبر 661م) حضره قاضي القضاة وكبار العلماء والأمراء، وقرأ نسب الخليفة على الحاضرين بعدما ثبت عند القاضي، ولُقِّب الخليفة بالحاكم بأمر الله، وقام بيبرس بمبايعته على العمل بكتاب الله وسنة رسوله، ولما تمت البيعة أقبل الخليفة على بيبرس وقلده أمور البلاد والعباد.
وسبق لنا أن تناولنا موضوع إحياء الخلافة العباسية في شيء من التفصيل في يوم (التاسع من المحرم).
وسعى بيبرس إلى تقوية الجيش وإمداده بما يحتاج من السلاح والعتاد، وأولى عناية بالأسطول ودور صناعة السفن المصرية في الفسطاط والإسكندرية ودمياط. وعمل على تحصين مناطق الحدود، وتنظيم وسائل الاتصال ونقل المعلومات من خلال نظام البريد. ولما اطمأن إلى ذلك قام بمواجهة القوى المتربصة بالإسلام وفي مقدمتها الصليبيون.
الصليبيون في الشام
لم يتجه "لويس التاسع" بعد إطلاق سراحه من مصر إلى فرنسا. وإنما اتجه إلى "عكا"، وكانت حملته الصليبية قد مُنيت بهزيمة مروعة في معركة المنصورة في (3 من المحرم 648هـ = إبريل 1250م) فقد فيها زهرة جنده، وأصيب الصليبيون بكارثة كبرى ظل أثرها المروع مستعصيًا على العلاج والإصلاح، وسبق لنا أن تناولناها على نحو من التفصيل في ذكرى وقوعها في الثالث من المحرم.
وقضى لويس التاسع في الإمارات الصليبية بالشام أربع سنوات يحاول جاهدًا تصفية الخلافات بين أمراء الصليبيين، والمحافظة على كياناتهم، وتنظيم الدفاع عن إماراتهم الصليبية، فعني بتحصين عكا وحيفا وقيسارية ويافا، وعمل على إعادة الصلح بين إمارة إنطاكية وأرمينية وسعى لإقامة حلف مع المغول، غير أن مسعاه لم يكلل بالنجاح، ثم غادر عكا عائدًا إلى بلاده في (5 من ربيع الأول 625هـ = 25 من إبريل 1254م).
ولم يكد لويس التاسع يرحل عن الشام حتى دبت المنازعات بينهم من جديد، وتصاعد الصراع بينهم إلى حد القتال، ولم يجدوا كبيرًا ينطوون تحت لوائه، فسادت أوضاعهم في الوقت الذي دولة المماليك بدأت في البروز بعد انتصارها العظيم في عين جالوت.
مقدمات الفتح الإسلامي
وكانت الفترة التي تلت رحيل لويس التاسع إلى أن تولى بيبرس سلطنة مصر والشام فترة هدوء ومسالمة بين الصليبيين والمسلمين لانشغال كل منهما بأموره الداخلية، على أن هذه السياسة المسالمة تحولت إلى ثورة وشدة من قبل المماليك بعد أن أخذ الصليبيون يتعاونون مع المغول ضد المماليك، ويعملون مرشدين لجيوشهم، ولم يقتصر الأمر على هذا بل استقبلت بعض الإمارات الصليبية قوات مغولية في حصونها.
وقد أصبح على المماليك أن يدفعوا هذا الخطر الداهم، وبدلاً من أن يواجهوا عدوًا واحدًا، تحتم عليهم أن يصطدموا مع المغول والصليبيين معًا، وكان بيبرس بشجاعته وسياسته قد ادخرته الأقدار لمثل هذه الفترات التاريخية الحرجة من تاريخ الأمة، فكان على قدر المسؤولية، وحقق ما عجز عشرات القادة الأكفاء عن تحقيقه.
وبدأت عمليات بيبرس العسكرية ضد الصليبيين في سنة (663هـ = 1265م)، فتوجه في (4 من ربيع الآخر 663هـ) إلى الشام، فهاجم "قيسارية" وفتحها عنوة في (8 من جمادى الأولى)، ثم عرج إلى أرسوف، ففتحها في شهر رجب من السنة نفسها.
وفي السنة التالية استكمل بيبرس ما بدأ، ففتح قلعة "صفد"، وكانت معقلاً من معاقل الصليبيين، وكان بيبرس يقود جيشه بنفسه، ويقوم ببعض الأعمال مع الجنود إثارة لحميتهم فيجر معهم الأخشاب مع البقر لبناء المجانيق اللازمة للحصار. وأصاب سقوط صفد الصليبيين بخيبة أمل، وحطم معنوياتهم؛ فسارعت بعض الإمارات الصليبية إلى طلب الصلح وعقد الهدنة.
الطريق إلى إنطاكية
تطلع بيبرس إلى الاستيلاء على إنطاكية التي تحتل مكانة خاصة لدى الصليبيين لمناعة حصونها، وتحكمها في الطرق الواقعة في المناطق الشمالية للشام، وكانت ثاني إمارة بعد الرها يؤسسها الصليبيون في أثناء حملتهم الأولى على الشام، وظلوا يسيطرون عليها مائة وسبعين عامًا.
وكان بيبرس قد استعد لهذه الموقعة الحاسمة خير استعداد، ومهد لسقوط الإمارة الصليبية بحملاته السابقة حتى جعل من إنطاكية مدينة معزولة، مغلولة اليد، محرومة من كل مساعدة ممكنة، فخرج من مصر في (3 من جمادى الآخرة 666هـ = 19 من فبراير 1268م)، ووصل إلى غزة، ومنها إلى "يافا" فاستسلمت له، ثم نجح في الاستيلاء على "شقيف أرنون" بعد حصار بدأه في (19 من رجب 666هـ = 5 من إبريل 1268م)، وبفتح يافا وشقيف، لم يبق للصليبيين جنوبي عكا التي كانت بأيديهم سوى قلعة عتليت.
ثم رحل بيبرس إلى طرابلس، فوصلها في (15 من شعبان 666هـ = 30 من إبريل 1268م) فأغار عليها وقتل كثيرًا من حاميتها، وقطع أشجارها وغور مياهها، ففزعت الإمارات الصليبية، وتوافد على بيبرس أمراء أنطرسوس وحصن الأكراد طلبًا للأمن والسلام، وبهذا مهد الطريق للتقدم نحو إنطاكية.
فتح إنطاكية
رحل بيبرس من طرابلس في (24 من شعبان 666هـ = 9 من مايو 1268م) دون أن يطلع أحدًا من قادته على وجهته، واتجه إلى حمص، ومنها إلى حماة، وهناك قسّم جيشه ثلاثة أقسام، حتى لا يتمكن الصليبيون من معرفة اتجاهه وهدفه، فاتجهت إحدى الفرق الثلاث إلى ميناء السويدية لتقطع الصلة بين إنطاكية والبحر، وتوجهت الفرقة الثانية إلى الشمال لسد الممرات بين قلقلية والشام لمنع وصول إمدادات من أرمينية الصغرى.
أما القوة الرئيسية وكانت بقيادة بيبرس فاتجهت إلى إنطاكية مباشرة، وضرب حولها حصارًا محكمًا في (أول رمضان سنة 666هـ = 15 من مايو 1268م)، وحاول بيبرس أن يفتح المدينة سلمًا، لكن محاولاته تكسرت أمام رفض الصليبيين التسليم، فشن بيبرس هجومه الضاري على المدينة، وتمكن المسلمون من تسلق الأسوار في (الرابع من رمضان)، وتدفقت قوات بيبرس إلى المدينة دون مقاومة، وفرت حاميتها إلى القلعة، وطلبوا من السلطان الأمان، فأجابهم إلى ذلك، وتسلم المسلمون القلعة في (5 من رمضان 666هـ = 18 من مايو 1268م) وأسروا من فيها.
وقد غنم المسلمون غنائم كثيرة، بلغ من كثرتها أن قسمت النقود بالطاسات، وبلغ من كثرة الأسرى "أنه لم يبق غلام إلا وله غلام، وبيع الصغير من الصليبيين باثني عشر درهمًا، والجارية بخمسة دراهم".
نتائج الفتح
كان سقوط إنطاكية أعظم فتح حققه المسلمون على الصليبيين بعد استرداد صلاح الدين الأيوبي لبيت المقدس، وفي الوقت نفسه كان كارثة كبرى ألمت بالصليبيين وزلزلت كيانهم، ومن طرائف الفتح أن بوهيمند السادس أمير إنطاكية لم يعلم ما حدث لها؛ إذ كان في إمارته الثانية طرابلس جنوبي إنطاكية، فتكفل بيبرس بإخباره بهذه الكارثة في رسالة ساخرة بعثها إليه من إنشاء الكاتب البليغ "ابن عبد الظاهر"، ومما جاء فيها:
".. وكتابنا هذا يتضمن البشر لك بما وهبك الله من السلامة وطول العمر بكونك لم تكن لك في هذه المدة بإنطاكية إقامة، فلو كنت بها كنت إما قتيلاً وإما أسيرًا، وإما جريحًا وإما كسيرًا...".
وبينما كان بيبرس في إنطاكية وصل إليه رسل الملك هيثوم الأرميني يعرضون عليه اتفاق بمقتضاه يعيدون ما أخذوه من المدن الإسلامية في أثناء الغزو المغولي للشام، مثل بهنسا، ومرزبان، ورعبان، كما ترك الداوية من الصليبيين "حصن بغراس"، وبذلك عاد شمال الشام إلى حوزة المسلمين.
وبهذا النصر الذي فتح الباب لسقوط الإمارات الصليبية الباقية تبوأ بيبرس مكانته التاريخية، باعتباره واحدًا من أبطال الإسلام.
من مصادر الدراسة:
ابن عبد الظاهر– الروض الزاهر في سير الملك الظاهر– تحقيق عبد العزيز الخويطر– الرياض– (1396-1976م).
ابن أيبك الدواداري – كنز الدرر وجامع الغرر– المجلد الثامن– تحقيق أولرخ هارمان– المعهد الألماني للآثار بالقاهرة – (1391هـ-1971م).
حسين محمد عطية– إمارة إنطاكية الصليبية والمسلمون– دار المعرفة الجامعية– الإسكندرية– 1989م.
سعيد عبد الفتاح عاشور– الحركة الصليبية– مكتبة الأنجلو المصرية– القاهرة– 1986م.
أحمد مختار العبادي– قيام دولة المماليك الأولى– دار النهضة العربية– بيروت– 1969م.
قاسم عبده قاسم– عصر سلاطين المماليك– عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية– القاهرة– 1998م.
عدوان تايلاندي على المسلمين:
في 12 من رمضان 1425هـالموافق 26 من أكتوبر 2004م: مقتل 87 مسلما على يد قوات الأمن التايلاندية في مظاهرات قام بها آلاف المتظاهرين المسلمين في إقليم ناراثيوات الذي يقطنه غالبية مسلمة جنوب تايلاند للمطالبة بإطلاق سراح معتقلين مسلمين.