- 22 يوليو 2008
- 16,039
- 146
- 63
- الجنس
- أنثى
- علم البلد
بسم الله الرحمن الرحيم
جاء في تفسير الامام القرطبي ( رحمه الله تعالى ) :
** قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ * مِن شَرّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرّ النّفّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ }.
فيه تسع مسائل:
الأولى: روى النسائيّ عن عقبة بن عامر, قال: أتيت النبي
وهو راكب, فوضعت يدي على قدمه, فقلت: أقرئني سورة« هُودٍ» أقرئني سورة يوسف. فقال لي: «ولَنْ تَقْرأ شيئاً أبلغ عند الله من {قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ }». وعنه قال: بينا أنا أسير مع النبيّ
بين الجحْفَة والأبواءِ, إذ غشتنا ريح مظلمة شديدة, فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوّذ بـ{ـأَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ}, و{أَعُوذُ بِرَبّ النّاسِ}, ويقول: «يا عقبة, تعوّذ بهما, فما تعوّذ متعوّذ بمثلهما». قال: وسمعته يقرأ بهما في الصلاة. وروى النّسائي عن عبد الله قال: أصابنا طَشّ وظُلْمة, فانتظرنا رسول الله
يَخْرج. ثم ذكر كلاماً معناه: فخرج رسول الله
( لِيُصلّيَ بنا), فقال: «قُلْ». فقلت: ما أقول؟ قال: «قُلْ هُوَ اللّهُ أحَدٌ والمعوذتين حين تمسي, وحين تصبح ثلاثاً, يكفِك كل شيء» وعن عقبة بن عامر الجُهَنِي قال: قال لي رسول الله
: «قُلْ». قلت: ما أقول؟ قال قل: {قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ } {قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ } {قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ النّاسِ } ـ فقرأهن رسول الله
, ثم قال ـ لم يتعوّذ الناس بمثلهن, أو لا يتعوّذ الناس بمثلِهِن». وفي حديث ابن عابس: «قل أعوذ بِرب الفلقِ وقُلْ أعوذُ بِرَبّ النّاسِ, هاتين السورتين». وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة: أن النبيّ
كان إذا اشتكى قرأ على نفسه بالمُعَوذّتَيْن ويَنْفِثُ, فلما اشتدّ وجعه كنت أقرأ عليه, وأمسح عنه بيده, رجاءَ بركتها. النّفْث: النفخ ليس معه ريق.
الثانية: ثبت في الصحيحين من حديث عائشة: أن النبيّ
سحره يهوديّ من يهود بني زُرَيْق, يقال له لَبِيدُ بن الأعْصم, حتى يخيلُ إليه أنه كان يفعل الشيء ولا يفعله, فمكث كذلك ما شاء الله أن يمكث ـ في غير الصحيح: سنة ـ ثم قال: «يا عائشة, اُشْعرت, أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه. أتاني ملكان, فجلس أحدهما عند رأسي, والاَخر عند رِجلي, فقال (الذي عند رأسي للذي عند رجلي): ما شأن الرجل؟ قال: مَطْبوب. قال ومَنْ طَبّهُ؟ قال لَبيد بن الأعصم. قال في ماذا؟ قال: في مُشْطٍ ومُشاطة وجفّ طلعةٍ ذكر, تحت راعوفة في بئر ذي أوْران». فجاء البئر واستخرجه. انتهى الصحيح. وقال ابن عباس: «أما شَعَرْتِ يا عائشة أن الله تعالى أخبرني بدائي». ثم بعث علِياً والزبير وعمار بن ياسر, فنزحوا ماء تلك البئر كأنه نقاعة الحناء, ثم رفعوا الصخرة وهي الراعوفة ـ صخرة تترك أسفل البئر يقوم عليها المائح, وأخرجوا الجُفّ, فإذا مُشَاطة رأس إنسان, وأسنان من مُشْط, وإذا وتر معقود فيه إحدى عشرة عقدة مغرزة بالإبر, فأنزل الله تعالى هاتين السورتين, وهما إحدى عشرة آية على عدد تلك العُقْد, وأمر أن يُتَعَوّذ بهما¹ فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة, ووجد النبيّ
خِفّة, حتى انحلت العقدة الأخيرة, فكأنما اُنشِط من عِقال, وقال: ليس به بأس. وجعل جبريل يَرْقِي رسول الله
فيقول: «باسم الله أرْقِيك, من كل شيء يؤذيك, من شر حاسدٍ وعَيْن, والله يَشْفِيك». فقالوا: يا رسول الله, ألا نقتل الخبيث. فقال: «أمّا أنا فقد شفاني الله, وأكره أن أثيرَ على الناس شَرّا». وذكر القشيري في تفسيره أنه ورد في الصّحاح: أن غلاماً من اليهود كان يخدُم النبيّ
, فدسّتْ إليه اليهود, ولم يزالوا به حتى أخَذ مُشاطة رأس النبيّ
. والمُشاطة (بضم الميم): ما يسقُط من الشعر عند المشط. وأخذ عدّة من أسنان مُشْطه, فأعطاها اليهود, فسحروه فيها, وكان الذي تولى ذلك لَبيدُ بن الأعْصم اليهوديّ. وذكر نحو ما تقدّم عن ابن عباس.
الثالثة: تقدّم في البقرة القول في السحر وحقيقته, وما ينشأ عنه من الاَلام والمفاسد, وحكم الساحر¹ فلا معنى لإعادته.
الرابعة: قوله تعالى: {الْفَلَقِ } اختُلف فيه¹ فقيل: سِجن في جَهنم¹ قاله ابن عباس. وقال اُبَيّ بن كعب: بيت في جهنم إذا فُتح صاح أهل النار من حره. وقال الحُبُليّ أبو عبد الرحمن: هو أسم من أسماء جهنم. وقال الكلبي: واد في جهنم. وقال عبد الله بن عمر: شجرة في النار. سعيد بن جبير: جُبّ في النار. النحاس: يقال لما اطمأنّ من الأرض فَلَق¹ فعلى هذا يصح هذا القول. وقال جابر بن عبد الله والحسن وسعيد بن جبير أيضاً ومجاهد وقتادة والقُرَظِيّ وابن زيد: الفَلَق, الصّبْح. وقاله ابن عباس. تقول العرب: هو أبين من فَلَقِ الصّبْح وفرقَ الصبح. وقال الشاعر:
يا ليلةً لم أنمْهَا بِتّ مُرْتَفِقاًأرْعَى النجومَ إلى أنْ نَوّرَ الفَلقُ
وقيل: الفلق: الجبال والصخور تنفلق بالمياه¹ أي تتشقق. وقيل: هو التفليق بين الجبال والصخور¹ لأنها تتشقق من خوف الله عز وجل. قال زهير:
ما زِلْتَ أرْمُقُهُم حتّى إذا هَبَطَتْأيدِي الرّكابِ بِهِمْ مِن راكِسٍ فَلَقَا
الراكس: بطن الوادي. وكذلك هو في قول النابغة:
أتـانِـي ودُونِـي راكِـسٌ فـالضّـواجِـعُ
والراكس أيضاً: الهادي, وهو الثور وسط البَيْدَر, تدور عليه الثّيران في الدّياسة. وقيل: الرحم تنفلق بالحيوان. وقيل: إنه كل ما انفلق عن جميع ما خَلَق من الحيوان والصبحِ والحبّ والنّوَى, وكل شيء من نبات وغيره¹ قاله الحسن وغيره. قال الضحاك: الفَلقُ الخلْق كُلّه¹ قال:
وَسْوَسَ يَدْعُو مُخْلِصاً رَبّ الْفَلقْسِرّا وقدْ أوّنَ تَاْوِين العُقُقْ
قلت: هذا القول يشهد له الاشتقاق¹ فإن الفَلْق الشق. فَلقْت الشيء فلقاً أي شققته. والتفليق مثله. يقال: فَلقته فانفلق وتَفَلّق. فكل ما انفلق عن شيء من حيوان وصبح وحب ونَوًى وماء فهو فَلَق¹ قال الله تعالى: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ} (الأنعام: 96) قال: {فَالِقُ الْحَبّ وَالنّوَىَ} (الأنعام: 95). وقال ذو الرمّة يصف الثور الوَحْشِيّ:
حَتّى إذَا ما انْجَلَى عن وجهِه فَلَقٌهادِيهِ في اُخْرَيَاتِ اللّيلِ مُنْتَصِبُ
يعني بالفلق هنا: الصبح بعينه. والفلق أيضاً: المطمئن من الأرض بين الربْوتين, وجمعه¹ فُلْقان¹ مثل خَلَق وخُلْقان. وربما قالوا: كان ذلك بفالق كذا وكذا¹ يريدون المكان المنحدر بين الربوتين. والفلَق أيضاً مِقطرة السّجان. فأما الفِلْق (بالكسر): فالداهية والأمر العجب¹ تقول منه: أفلق الرجل وافتلق. وشاعر مُفْلِق, وقد جاء بالفِلْق (أي بالداهية). والفِلْق أيضاً: القضيب يُشَقّ باثنين, فيعمل منه قَوْسان¹ يقال لكل واحدة منهما فِلْق. وقولهم¹ جاء بعُلَقَ فُلَق¹ وهي الداهية¹ لا يُجرى (مُجرَى عُمر). يقال منه: أعلقت وأفلقت¹ أي جئت بعُلَق فُلَقَ. ومرّ يفتلق في عدوِه¹ أي يأتي بالعجب من شدّته.
قوله تعالى: {مِن شَرّ مَا خَلَقَ } قيل: هو إبليس وذرّيته. وقيل جهنم. وقيل: هو عامّ¹ أي من شر كل ذي شر خلقه الله عز وجل.
الخامسة: قوله تعالى: {وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } اختُلف فيه¹ فقيل: هو الليل. والغَسَق: أوّل ظلمة الليل¹ يقال منه: غَسَق الليلُ يَغْسِق أي أظلم. قال (ابن) قيس الرقيات:
اِنّ هَذَا الليلَ قد غَسَقاواشْتكَيْتُ الهمّ والأرَقَا
وقال آخر:
يا طيفَ هِندٍ لَقَدْ أبْقَيت لِي أرَقاًاِذْ جِئتنا طارِقاً والليلُ قَدْ غَسَقَا
هذا قول ابن عباس والضحاك وقتادة والسّدّيّ وغيرهم. و«وَقَبَ» على هذا التفسير: أظلم¹ قاله ابن عباس. والضحاك: دَخَلَ. قتادة: ذَهَبَ. يَمانُ بن رِئاب: سَكَن. وقيل: نزل¹ يقال: وَقَب العذاب على الكافرين¹ نَزَل. قال الشاعر:
وَقَبَ العذابُ عليهمُ فكَأنّهُمْلَحِقتْهُمُ نارُ السّمُومِ فاُحْصِدُوا
وقال الزجاج: قيل الليل غاسق لأنه أبرد من النهار. والغاسق: البارد. والغَسَق: البرد¹ ولأن في الليل تخرج السّباع من آجامها, والهوام من أماكنها, وينبعث أهل الشر على العيث والفساد. وقيل: الغاسق: الثّريّا¹ وذلك أنها إذا سقطت كثرت الأسقام والطواعين, وإذا طلعت ارتفع ذلك¹ قاله عبد الرحمن بن زيد. وقيل: هو الشمس إذا غربت¹ قاله ابن شهاب. وقيل: هو القمر. قال القُتَبِيّ: {إِذَا وَقَبَ} القمر: إذا دخل في ساهوره, وهو كالغلاف له, وذلك إذا خُسِفَ به. وكل شيء أسود فهو غَسَق. وقال قتادة: «اِذا وَقَب» إذا غابَ. وهو أصح¹ لأن في الترمذيّ عن عائشة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر, فقال: «يا عائشة, استعيذي بالله من شر هذا, فإن هذا هو الغاسق إذا وَقَبَ». قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وقال أحمد بن يحيـى ثعلب عن ابن الأعرابي في تأويل هذا الحديث: وذلك أن أهل الريبَ يَتَحينون وَجبة القمر. وأنشد:
أراحنِي اللّهُ مِن أشياءَ أكرهُهامنها العجوزُ ومنها الكلبُ والقمرُ
هذا يبوحُ وهذا يُستضاء بِهوهذه ضِمْرِزٌ قَوّامَةُ السّحَرِ
وقيل: الغاسق: الحية إذا لدغت. وكأن الغاسق نابُها¹ لأن السم يغسق منه¹ أي يسيل. ووقب نابها: إذا دخل في اللدِيغ. وقيل: الغاسق: كل هاجم يضر, كائناً ما كان¹ من قولهم: غسقتِ القرحة: إذا جرى صديدُها.
السادسة: قوله تعالى: {وَمِن شَرّ النّفّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } يعني الساحرات اللائي ينفُثْن في عُقَد الخيط حين يَرْقِي عليها. شبه النفخ كما يعمل من يرقِين. قال الشاعر:
أعُوذُ بِربّي مِن النّافِثَاتِ في عِضهِ العاضِهِ المُعْضِه
وقال مُتَمّم بن نُوَيْرة:
نَفَثْتَ في الخيطِ شَبِيهَ الرّقَىمِن خشية الجِنةِ والحاسِدِ
وقال عنترة:
فإنْ يَبْرَاْ فلَمْ أنْفُثْ عَليْهِوإنْ يُفْقَدْ فَحُق لَهُ الفُقُودُ
السابعة: روى النّسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عَقَد عُقدة ثم نَفَثَ فيها, فقد سَحَر, ومن سحر فقد أشْرَك, ومَنْ تَعَلّق شيئاً وُكِل إليه». واختلِف في النفْث عند الرّقَى, فمنعه قوم, وأجازه آخرون. قال عكرمة: لا ينبغي للراقي أن ينفُث, ولا يمسح ولا يعقِد. قال إبراهيم: كانوا يكرهون النفث في الرّقَى. وقال بعضهم: دخلت على الضحاك وهو وجِع, فقلت: ألا اُعَوّذَك يا أبا محمد؟ قال: بلى, ولكن لا تنفث¹ فعوّذته بالمعوذتين. وقال ابن جريج قلت لعطاء: القرآن يُنفَخ به أو يُنْفَثُ؟ قال: لا شيء من ذلك ولكن تقرؤه هكذا. ثم قال بعد: انفُثِ إن شئت. وسئل محمد بن سِيرين عن الرّقية يُنْفث فيها, فقال: لا أعلم بها بأساً, وإذا اختلفوا فالحاكم بينهم السنة. روت عائشة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان ينفِث في الرّقية¹ رواه الأئمة, وقد ذكرناه أوّل السورة وفي (سُبْحان). وعن محمد بن حاطب أن يده احترقت فأتت به أمّه النبيّ صلى الله عليه وسلم, فجعل ينفُث عليها ويتكلم بكلام¹ زعم أنه لم يحفظه. وقال محمد بن الأشعث: ذُهِب بي إلى عائشة
ا وفي عينيّ سوء, فرقَتْنِي ونَفَثَت.
وأما ما رُوي عن عكرمة من قوله: لا ينبغي للراقي أن ينفُث¹ فكأنه ذهب فيه إلى أن الله تعالى جعل النفْث في العُقَد مما يستعاذ به, فلا يكون بنفسه عُوذة. وليس هذا هكذا¹ لأن النفث في العُقَد إذا كان مذموماً لم يجب أن يكون النفث بلا عُقد مذموماً. ولأن النفث في العُقَد إنما أريد به السحر المضِرّ بالأرواح, وهذا النفث لاستصلاح الأبدان, فلا يقاس ما ينفع بما يضر. وأما كراهة عكرمة المسحَ فخلاف السنة. قال علي
: اشتكيت, فدخل عليّ النبيّ
وأنا أقول: اللهمّ إنْ كان أجلي قد حَضَرَ فأرِحنِي, وإن كان متأخراً فاشفني وعافني, وإن كان بلاء فصبرني. فقال النبيّ
: «كيف قلت»؟ فقلت له. فَمَسحني بيده, ثم قال: «اللهم اشْفِه» فما عاد ذلك الوجع بعد. وقرأ عبد الله بن عمرو وعبد الرحمن بن سابط وعيسى بن عمر ورويس عن يعقوب «ومِن شر النافِثاتِ» في وزن (فاعلات). ورُوِيت عن عبد الله بن القاسم مولى أبي بكر الصديق
ما. وروي أن نساء سحرن النبيّ
في إحدى عشرة عقدة¹ فأنزل الله المعوذتين إحدى عشرة آية. قال ابن زيد: كنّ من اليهود¹ يعني السواحر المذكورات. وقيل: هنّ بنات لَبِيد بن الأعصم.
الثامنة: قوله تعالى: {وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } قد تقدم في سورة «النساء» معنى الحسد, وأنه تمني زوالِ نعمة المحسود وإن لم يصر للحاسد مثلها. والمنافسة هي تمني مثلها وإن لم تزل. فالحسدُ شرّ مذموم. والمنافسة مباحة وهي الغِبطة. وقد روي: أن النبيّ
قال: «المؤمن يَغْبِطُ, والمنافق يَحْسُد». وفي الصحيحين: «لا حسَد إلا في اثنتين» يريد لا غِبْطَة. وقد مضى في سورة «النساء» و
.
قلت: قال العلماء: الحاسد لا يضر إلا إذا ظهر حسده بفعل أو قول, وذلك بأن يحمله الحسد على إيقاع الشر بالمحسود, فيَتْبَع مساوئه ويطلب عَثَراته. قال صلى الله عليه وسلم: «اِذا حَسَدت فلا تَبْغِ...» الحديث. وقد تقدم. والحسد أوّل ذنب عُصِي الله به في السماء, وأول ذنب عُصِي به في الأرض, فحسَدَ إبليس آدَمَ, وحسد قابيلُ هابيلَ. والحاسد ممقوت مبْغوض مطرود ملعون. ولقد أحسن من قال:
قل للحسود إذا تَنَفّس طَعْنةًيا ظالماً وكأنهُ مَظْلُومُ
التاسعة: هذه سورة دالة على أن الله سبحانه خالق كل شر, وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتعوّذ من جميع الشرور. فقال: {مِن شَرّ مَا خَلَقَ }. وجعل خاتمة ذلك الحسد, تنبيهاً على عِظمه, وكثرة ضرره, والحاسد عدوّ نعمة الله. قال بعض الحكماء: بارزَ الحاسد ربه من خمسة أوجه: أحدها: أنه أبغض كل نعمة ظهرت على غيره. وثانيها: أنه ساخط لقسمة ربه, كأنه يقول: لم قسمت هذه القسمة؟ وثالثها: أنه ضادّ فعل الله, أي إن فضل الله يؤتِيه من يشاء, وهو يبخَل بفضل الله. ورابعها: أنه خذل أولياء الله, أو يريد خذلانهم وزوال النعمة عنهم. وخامسها: أنه أعان عدوّه إبليس. وقيل: الحاسد لا ينال في المجالس إلا ندامة, ولا ينال عند الملائكة إلا لَعنة وبغضاء, ولا ينال في الخلوة إلا جَزَعاً وغماً, ولا ينال في الاَخرة إلا حُزْناً واحتراقاً, ولا ينال من الله إلا بعداً ومقتاً. ورُوي:
أن النبيّ
قال: «ثلاثة لا يُستجاب دعاؤهم: آكل الحرام, ومُكثِر الغِيبة, ومن كان في قلبه غِلّ أو حسد للمسلمين». والله
أعلم.
جاء في تفسير الامام القرطبي ( رحمه الله تعالى ) :
** قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ * مِن شَرّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرّ النّفّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ }.
فيه تسع مسائل:
الأولى: روى النسائيّ عن عقبة بن عامر, قال: أتيت النبي
الثانية: ثبت في الصحيحين من حديث عائشة: أن النبيّ
الثالثة: تقدّم في البقرة القول في السحر وحقيقته, وما ينشأ عنه من الاَلام والمفاسد, وحكم الساحر¹ فلا معنى لإعادته.
الرابعة: قوله تعالى: {الْفَلَقِ } اختُلف فيه¹ فقيل: سِجن في جَهنم¹ قاله ابن عباس. وقال اُبَيّ بن كعب: بيت في جهنم إذا فُتح صاح أهل النار من حره. وقال الحُبُليّ أبو عبد الرحمن: هو أسم من أسماء جهنم. وقال الكلبي: واد في جهنم. وقال عبد الله بن عمر: شجرة في النار. سعيد بن جبير: جُبّ في النار. النحاس: يقال لما اطمأنّ من الأرض فَلَق¹ فعلى هذا يصح هذا القول. وقال جابر بن عبد الله والحسن وسعيد بن جبير أيضاً ومجاهد وقتادة والقُرَظِيّ وابن زيد: الفَلَق, الصّبْح. وقاله ابن عباس. تقول العرب: هو أبين من فَلَقِ الصّبْح وفرقَ الصبح. وقال الشاعر:
يا ليلةً لم أنمْهَا بِتّ مُرْتَفِقاًأرْعَى النجومَ إلى أنْ نَوّرَ الفَلقُ
وقيل: الفلق: الجبال والصخور تنفلق بالمياه¹ أي تتشقق. وقيل: هو التفليق بين الجبال والصخور¹ لأنها تتشقق من خوف الله عز وجل. قال زهير:
ما زِلْتَ أرْمُقُهُم حتّى إذا هَبَطَتْأيدِي الرّكابِ بِهِمْ مِن راكِسٍ فَلَقَا
الراكس: بطن الوادي. وكذلك هو في قول النابغة:
أتـانِـي ودُونِـي راكِـسٌ فـالضّـواجِـعُ
والراكس أيضاً: الهادي, وهو الثور وسط البَيْدَر, تدور عليه الثّيران في الدّياسة. وقيل: الرحم تنفلق بالحيوان. وقيل: إنه كل ما انفلق عن جميع ما خَلَق من الحيوان والصبحِ والحبّ والنّوَى, وكل شيء من نبات وغيره¹ قاله الحسن وغيره. قال الضحاك: الفَلقُ الخلْق كُلّه¹ قال:
وَسْوَسَ يَدْعُو مُخْلِصاً رَبّ الْفَلقْسِرّا وقدْ أوّنَ تَاْوِين العُقُقْ
قلت: هذا القول يشهد له الاشتقاق¹ فإن الفَلْق الشق. فَلقْت الشيء فلقاً أي شققته. والتفليق مثله. يقال: فَلقته فانفلق وتَفَلّق. فكل ما انفلق عن شيء من حيوان وصبح وحب ونَوًى وماء فهو فَلَق¹ قال الله تعالى: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ} (الأنعام: 96) قال: {فَالِقُ الْحَبّ وَالنّوَىَ} (الأنعام: 95). وقال ذو الرمّة يصف الثور الوَحْشِيّ:
حَتّى إذَا ما انْجَلَى عن وجهِه فَلَقٌهادِيهِ في اُخْرَيَاتِ اللّيلِ مُنْتَصِبُ
يعني بالفلق هنا: الصبح بعينه. والفلق أيضاً: المطمئن من الأرض بين الربْوتين, وجمعه¹ فُلْقان¹ مثل خَلَق وخُلْقان. وربما قالوا: كان ذلك بفالق كذا وكذا¹ يريدون المكان المنحدر بين الربوتين. والفلَق أيضاً مِقطرة السّجان. فأما الفِلْق (بالكسر): فالداهية والأمر العجب¹ تقول منه: أفلق الرجل وافتلق. وشاعر مُفْلِق, وقد جاء بالفِلْق (أي بالداهية). والفِلْق أيضاً: القضيب يُشَقّ باثنين, فيعمل منه قَوْسان¹ يقال لكل واحدة منهما فِلْق. وقولهم¹ جاء بعُلَقَ فُلَق¹ وهي الداهية¹ لا يُجرى (مُجرَى عُمر). يقال منه: أعلقت وأفلقت¹ أي جئت بعُلَق فُلَقَ. ومرّ يفتلق في عدوِه¹ أي يأتي بالعجب من شدّته.
قوله تعالى: {مِن شَرّ مَا خَلَقَ } قيل: هو إبليس وذرّيته. وقيل جهنم. وقيل: هو عامّ¹ أي من شر كل ذي شر خلقه الله عز وجل.
الخامسة: قوله تعالى: {وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } اختُلف فيه¹ فقيل: هو الليل. والغَسَق: أوّل ظلمة الليل¹ يقال منه: غَسَق الليلُ يَغْسِق أي أظلم. قال (ابن) قيس الرقيات:
اِنّ هَذَا الليلَ قد غَسَقاواشْتكَيْتُ الهمّ والأرَقَا
وقال آخر:
يا طيفَ هِندٍ لَقَدْ أبْقَيت لِي أرَقاًاِذْ جِئتنا طارِقاً والليلُ قَدْ غَسَقَا
هذا قول ابن عباس والضحاك وقتادة والسّدّيّ وغيرهم. و«وَقَبَ» على هذا التفسير: أظلم¹ قاله ابن عباس. والضحاك: دَخَلَ. قتادة: ذَهَبَ. يَمانُ بن رِئاب: سَكَن. وقيل: نزل¹ يقال: وَقَب العذاب على الكافرين¹ نَزَل. قال الشاعر:
وَقَبَ العذابُ عليهمُ فكَأنّهُمْلَحِقتْهُمُ نارُ السّمُومِ فاُحْصِدُوا
وقال الزجاج: قيل الليل غاسق لأنه أبرد من النهار. والغاسق: البارد. والغَسَق: البرد¹ ولأن في الليل تخرج السّباع من آجامها, والهوام من أماكنها, وينبعث أهل الشر على العيث والفساد. وقيل: الغاسق: الثّريّا¹ وذلك أنها إذا سقطت كثرت الأسقام والطواعين, وإذا طلعت ارتفع ذلك¹ قاله عبد الرحمن بن زيد. وقيل: هو الشمس إذا غربت¹ قاله ابن شهاب. وقيل: هو القمر. قال القُتَبِيّ: {إِذَا وَقَبَ} القمر: إذا دخل في ساهوره, وهو كالغلاف له, وذلك إذا خُسِفَ به. وكل شيء أسود فهو غَسَق. وقال قتادة: «اِذا وَقَب» إذا غابَ. وهو أصح¹ لأن في الترمذيّ عن عائشة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر, فقال: «يا عائشة, استعيذي بالله من شر هذا, فإن هذا هو الغاسق إذا وَقَبَ». قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وقال أحمد بن يحيـى ثعلب عن ابن الأعرابي في تأويل هذا الحديث: وذلك أن أهل الريبَ يَتَحينون وَجبة القمر. وأنشد:
أراحنِي اللّهُ مِن أشياءَ أكرهُهامنها العجوزُ ومنها الكلبُ والقمرُ
هذا يبوحُ وهذا يُستضاء بِهوهذه ضِمْرِزٌ قَوّامَةُ السّحَرِ
وقيل: الغاسق: الحية إذا لدغت. وكأن الغاسق نابُها¹ لأن السم يغسق منه¹ أي يسيل. ووقب نابها: إذا دخل في اللدِيغ. وقيل: الغاسق: كل هاجم يضر, كائناً ما كان¹ من قولهم: غسقتِ القرحة: إذا جرى صديدُها.
السادسة: قوله تعالى: {وَمِن شَرّ النّفّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } يعني الساحرات اللائي ينفُثْن في عُقَد الخيط حين يَرْقِي عليها. شبه النفخ كما يعمل من يرقِين. قال الشاعر:
أعُوذُ بِربّي مِن النّافِثَاتِ في عِضهِ العاضِهِ المُعْضِه
وقال مُتَمّم بن نُوَيْرة:
نَفَثْتَ في الخيطِ شَبِيهَ الرّقَىمِن خشية الجِنةِ والحاسِدِ
وقال عنترة:
فإنْ يَبْرَاْ فلَمْ أنْفُثْ عَليْهِوإنْ يُفْقَدْ فَحُق لَهُ الفُقُودُ
السابعة: روى النّسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عَقَد عُقدة ثم نَفَثَ فيها, فقد سَحَر, ومن سحر فقد أشْرَك, ومَنْ تَعَلّق شيئاً وُكِل إليه». واختلِف في النفْث عند الرّقَى, فمنعه قوم, وأجازه آخرون. قال عكرمة: لا ينبغي للراقي أن ينفُث, ولا يمسح ولا يعقِد. قال إبراهيم: كانوا يكرهون النفث في الرّقَى. وقال بعضهم: دخلت على الضحاك وهو وجِع, فقلت: ألا اُعَوّذَك يا أبا محمد؟ قال: بلى, ولكن لا تنفث¹ فعوّذته بالمعوذتين. وقال ابن جريج قلت لعطاء: القرآن يُنفَخ به أو يُنْفَثُ؟ قال: لا شيء من ذلك ولكن تقرؤه هكذا. ثم قال بعد: انفُثِ إن شئت. وسئل محمد بن سِيرين عن الرّقية يُنْفث فيها, فقال: لا أعلم بها بأساً, وإذا اختلفوا فالحاكم بينهم السنة. روت عائشة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان ينفِث في الرّقية¹ رواه الأئمة, وقد ذكرناه أوّل السورة وفي (سُبْحان). وعن محمد بن حاطب أن يده احترقت فأتت به أمّه النبيّ صلى الله عليه وسلم, فجعل ينفُث عليها ويتكلم بكلام¹ زعم أنه لم يحفظه. وقال محمد بن الأشعث: ذُهِب بي إلى عائشة
وأما ما رُوي عن عكرمة من قوله: لا ينبغي للراقي أن ينفُث¹ فكأنه ذهب فيه إلى أن الله تعالى جعل النفْث في العُقَد مما يستعاذ به, فلا يكون بنفسه عُوذة. وليس هذا هكذا¹ لأن النفث في العُقَد إذا كان مذموماً لم يجب أن يكون النفث بلا عُقد مذموماً. ولأن النفث في العُقَد إنما أريد به السحر المضِرّ بالأرواح, وهذا النفث لاستصلاح الأبدان, فلا يقاس ما ينفع بما يضر. وأما كراهة عكرمة المسحَ فخلاف السنة. قال علي
الثامنة: قوله تعالى: {وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } قد تقدم في سورة «النساء» معنى الحسد, وأنه تمني زوالِ نعمة المحسود وإن لم يصر للحاسد مثلها. والمنافسة هي تمني مثلها وإن لم تزل. فالحسدُ شرّ مذموم. والمنافسة مباحة وهي الغِبطة. وقد روي: أن النبيّ
قلت: قال العلماء: الحاسد لا يضر إلا إذا ظهر حسده بفعل أو قول, وذلك بأن يحمله الحسد على إيقاع الشر بالمحسود, فيَتْبَع مساوئه ويطلب عَثَراته. قال صلى الله عليه وسلم: «اِذا حَسَدت فلا تَبْغِ...» الحديث. وقد تقدم. والحسد أوّل ذنب عُصِي الله به في السماء, وأول ذنب عُصِي به في الأرض, فحسَدَ إبليس آدَمَ, وحسد قابيلُ هابيلَ. والحاسد ممقوت مبْغوض مطرود ملعون. ولقد أحسن من قال:
قل للحسود إذا تَنَفّس طَعْنةًيا ظالماً وكأنهُ مَظْلُومُ
التاسعة: هذه سورة دالة على أن الله سبحانه خالق كل شر, وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتعوّذ من جميع الشرور. فقال: {مِن شَرّ مَا خَلَقَ }. وجعل خاتمة ذلك الحسد, تنبيهاً على عِظمه, وكثرة ضرره, والحاسد عدوّ نعمة الله. قال بعض الحكماء: بارزَ الحاسد ربه من خمسة أوجه: أحدها: أنه أبغض كل نعمة ظهرت على غيره. وثانيها: أنه ساخط لقسمة ربه, كأنه يقول: لم قسمت هذه القسمة؟ وثالثها: أنه ضادّ فعل الله, أي إن فضل الله يؤتِيه من يشاء, وهو يبخَل بفضل الله. ورابعها: أنه خذل أولياء الله, أو يريد خذلانهم وزوال النعمة عنهم. وخامسها: أنه أعان عدوّه إبليس. وقيل: الحاسد لا ينال في المجالس إلا ندامة, ولا ينال عند الملائكة إلا لَعنة وبغضاء, ولا ينال في الخلوة إلا جَزَعاً وغماً, ولا ينال في الاَخرة إلا حُزْناً واحتراقاً, ولا ينال من الله إلا بعداً ومقتاً. ورُوي:
أن النبيّ