إعلانات المنتدى


القول في تأويل (الرحمن الرحيم) للطبري

الأعضاء الذين قرؤوا الموضوع ( 0 عضواً )

رضا الجنايني

مزمار كرواني
6 يونيو 2008
2,850
27
0
الجنس
ذكر
القول في تأويل قوله تعالى: {الرحمن الرحيم}قال أبو جعفر: أما الرحمن، فهو "فعلان"، من رحم، والرحيم فعيل منه. والعرب كثيرا ما تبني الأسماء من فعل يفعل على فعلان، كقولهم من غضب غضبان، ومن سكر سكران، ومن عطش عطشان، فكذلك قولهم رحمن من رحم، لأن "فعل" منه: رحم يرحم.
وقيل "رحيم" وإن كانت عين فعل منها مكسورة، لأنه مدح. ومن شأن العرب أن يحملوا أبنية الأسماء إذا كان فيها مدح أو ذم على فعيل، وإن كانت عين فعل منها مكسورة أو مفتوحة، كما قالوا من علم: عالم وعليم، ومن قدر: قادر وقدير. وليس ذلك منها بناء على أفعالها؛ لأن البناء من "فعل يفعل" "وفعل يفعل" فاعل. فلو كان الرحمن والرحيم خارجين عن بناء أفعالهما لكانت صورتهما الراحم.
فإن قال قائل: فإذا كان الرحمن والرحيم اسمين مشتقين من الرحمة، فما وجه تكرير ذلك وأحدهما مؤد عن معنى الآخر ؟.
قيل له: ليس الأمر في ذلك على ما ظننت، بل لكل كلمة منهما معنى لا تؤدي الأخرى منهما عنها. فإن قال: وما المعنى الذي انفردت به كل واحدة منهما، فصارت إحداهما غير مؤدية المعنى عن الأخرى؟ قيل: أما من جهة العربية، فلا تمانع بين أهل المعرفة بلغات العرب أن قول القائل والرحمن" - عن أبنية الأسماء من "فعل يفعل" - أشد عدولا من قوله "الرحيم". ولا خلاف مع ذلك بينهم أن كل اسم كان له أصل في "فعل يفعل"، ثم كان عن أصله من فعل ويفعل اشد عدولا، أن الموصوف به مفضل على الموصوف بالاسم المبني على أصله من "فعل يفعل" إذا كانت التسمية به مدحا أو ذما. فهذا ما في قول القائل "الرحمن" من زيادة المعنى على قوله: "الرحيم" في اللغة. وأما من جهة الأثر والخبر، ففيه بين أهل التأويل اختلاف.
121 - فحدثني السري بن يحيى التميمي، قال: حدثنا عثمان بن زفر، قال: سمعت العرزمي يقول: "الرحمن الرحيم" قال: الرحمن بجميع الخلق. "الرحيم" قال: بالمؤمنين.
122 - وحدثنا إسماعيل بن الفضل، قال: حدثنا إبراهيم بن العلاء، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبي مليكة، عمن حدثه، عن ابن مسعود، ومسعر بن كدام، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد - يعني الخدري - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عيسى ابن مريم قال: الرحمن: رحمن الآخرة والدنيا، والرحيم: رحيم الآخرة".
فهذان الخبران قد أنبا عن فرق ما بين تسمية الله جل ثناؤه باسمه الذي هو "رحمن"، وتسميته باسمه الذي هو "رحيم".
واختلاف معنى الكلمتين، وإن اختلفا في معنى ذلك الفرق، فدل أحدهما على أن ذلك في الدنيا، ودل الآخر على أنه في الآخرة.
فإن قال: فأي هذين التأويلين أولى عندك بالصحة؟ قيل: لجميعهما عندنا في الصحة مخرج، فلا وجه لقول قائل: أيهما أولى بالصحة. وذلك أن المعنى الذي في تسمية الله بالرحمن، دون الذي في تسميته بالرحيم؛ هو أنه بالتسمية بالرحمن موصوف بعموم الرحمة جميع خلقه، وأنه بالتسمية بالرحيم موصوف بخصوص الرحمة بعض خلقه، إما في كل الأحوال، وأما في بعض الأحوال. فلا شك إذا كان ذلك كذلك، أن ذلك الخصوص الذي في وصفه بالرحيم لا يستحيل عن معناه، في الدنيا كان ذلك أو في الآخرة، أو فيهما جميعا. فإذا كان صحيحا ما قلنا من ذلك - وكان الله جل ثناؤه قد خص عباده المؤمنين في عاجل الدنيا بما لطف بهم في توفيقه إياهم لطاعته، والإيمان به وبرسله، واتباع أمره واجتناب معاصيه؛ مما خذل عنه من أشرك به فكفر، وخالف ما أمره به وركب معاصيه، وكان مع ذلك قد جعل جل ثناؤه ما أعد في آجل الآخرة في جناته من النعيم المقيم والفوز المبين لمن أمن به وصدق رسله وعمل بطاعته خالصا دون من أشرك وكفر به كان بينا إن الله قد خص المؤمنين من رحمته في الدنيا والآخرة، مع ما قد عمهم به والكفار في الدنيا، من الإفضال والإحسان إلى جميعهم، في البسط في الرزق، وتسخير السحاب بالغيث، وإخراج النبات من الأرض، وصحة الأجسام والعقول، وسائر النعم التي لا تحصى، التي يشترك فيها المؤمنون والكافرون. فربنا جل ثناؤه رحمن جميع خلقه في الدنيا والآخر. ورحيم المؤمنين خاصة في الدنيا والآخرة.
فأما الذي عم جميعهم به في الدنيا من رحمته، فكان رحمانا لهم به، فما ذكرنا مع نظائره التي لا سبيل إلى إحصائها لأحد من خلقه، كما قال جل ثناؤه : {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} [إبراهيم: 34] وأما في الآخرة، فالذي عم جميعهم به فيها من رحمته، فكان لهم رحمانا. تسويته بين جميعهم جل ذكره في عدله وقضائه، فلا يظلم أحدا منهم مثقال ذرة، وإن تك حسنه يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما، وتوفى كل نفس ما كسبت. فذلك معنى عمومه في الآخرة جميعهم برحمته الذي كان به رحمانا في الآخرة. وأما ما خص به المؤمنين في عاجل الدنيا من رحمته الذي كان به رحيما لهم فيها، كما قال حل ذكره: {وكان بالمؤمنين رحيما} [الأحزاب: 43] فما وصفنا من اللطف لهم في دينهم، فخصهم به دون من خذله من أهل الكفر به. وأما ما خصهم به في الآخرة، فكان به رحيما لهم دون الكافرين. فما وصفنا آنفا مما أعد لهم دون غيرهم من النعيم والكرامة التي تقصر عنها الأماني. وأما القول الآخر في تأويله، فهو ما:
123 - حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: الرحمن الفعلان من الرحمة، وهو من كلام العرب. قال: الرحمن الرحيم: الرقيق الرفيق بمن أحب أن يرحمه، والبعيد الشديد على من أحب أن يعنف عليه. وكذلك أسماؤه كلها.
وهذا التأويل من ابن عباس، يدل على أن الذي به ربنا رحمن هو الذي به رحيم، وإن كان لقوله والرحمن. من المعنى ما ليس لقوله "الرحيم"؛ لأنه جعل معنى الرحمن بمعنى الرقيق على من رق عليه، ومعنى الرحيم بمعنى الرفيق بمن رفق به. والقول الذي رويناه في تأويل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكرناه عن العرزمي، أشبه بتأويله من هذا القول الذي روينا عن ابن عباس؛ وإن كان هذا القول موافقا معناه معنى ذلك، في أن للرحمن من المعنى ما ليس للرحيم، وأن للرحيم تأويلا غير تأويل الرحمن. والقول الثالث في تأويل ذلك، ما:
124 - حدثني به عمران بن بكار الكلاعي، قال: حدثنا يحيى بن صالح، قال: حدثنا أبو الأزهر نصر بن عمرو اللخمي من أهل فلسطين، قال: سمعت عطاء الخراساني، يقول: كان الرحمن، فلما اختزل الرحمن من اسمه كان الرحمن الرحيم.
والذي أراد إن شاء الله عطاء بقوله هذا: أن الرحمن كان من أسماء الله التي لا يتسمى بها أحد من خلقه، فلما تسمى به الكذاب مسيلمة - وهو اختزاله إياه، يعني اقتطاعه من أسمائه 0 لنفسه - أخبر الله جل ثناؤه أن اسمه الرحيم الرحيم، ليفصل بذلك لعباده اسمه من اسم من قد تسمى بأسمائه، إذ كان لا يسمى أحد الرحمن الرحيم فيجمع له هذان الاسمان غيره جل ذكره؛ وإنما تسمى بعض خلقه إما رحيما، أو يتسمى رحمن، فأما "رحمن رحيم"، فلم يجتمعا قط لأحد سواه، ولا يجمعان لأحد غيره. فكأن معنى قول عطاء هذا: أن الله جل ثناؤه إنما فصل بتكرير الرحيم على الرحمن بين اسمه واسم غيره من خلقه، اختلف معناهما أو اتفقا.
والذي قال عطاء من ذلك غير فاسد المعنى، بل جائز أن يكون جل ثناؤه خص نفسه بالتسمية بهما معا مجتمعين إبانة لها من خلقه، ليعرف عباده بذكرهما مجموعين أنه المقصود بذكرهما دون من سواه من خلقه، مع ما في تأويل كل واحد منهما من المعنى الذي ليس في الآخر منهما.
وقد زعم بعض أهل الغباء أن العرب كانت لا تعرف الرحمن ولم يكن ذلك في لغتها؛ ولذلك قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: {وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا} [الفرقان: 20] إنكارا منهم لهذا الاسم. كأنه كان محالا عنده أن ينكر أهل الشرك ما كانوا عالمين بصحته، أو كأنه لم يتل من كتاب الله قول الله: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه} يعني محمدا {كما يعرفون أبناءهم} [البقرة: 146] وهم مع ذلك به مكذبون، ولنبوته جاحدون. فيعلم بذلك أنهم قد كانوا يدافعون حقيقة ما قد ثبت عندهم صحته واستحكمت لديهم معرفته. وقد أنشد لبعض الجاهلية الجهلاء:
ألا ضربت تلك الفتاة هجينها ألا قضب الرحمن ربي يمينها
وقال سلامة بن جندل الطهوي:
عجلتم علينا عجلتينا عليكم وما يشاء الرحمن يعقد ويطلق
وقد زعم أيضا بعض من ضعفت معرفته بتأويل أهل التأويل، وقلت روايته لأقوال السلف من أهل التفسير، أن "الرحمن" مجازه "ذو الرحمة"، و "الرحيم" مجازه "الراحم". ثم قال: قد يقدرون اللفظين من لفظ والمعنى واحد، وذلك لاتساع الكلام عندهم. قال وقد فعلوا مثل ذلك، فقالوا: ندمان ونديم. ثم استشهد بقول برج بن مسهر الطافي:
وندمان يزيد الكأس طيبا سقيت وقت تغورت النجوم
واستشهد بأبيات نظائر له في النديم والندمان. ففرق بين معنى الرحمن والرحيم في التأويل، لقوله: الرحمن ذو الرحمة، والرحيم : الراحم. وإن كان قد ترك بيان تأويل معنيهما على صحته. ثم مثل ذلك باللفظين يأتيان بمعنى واحد، فعاد إلى ما قد جعله بمعنيين، فجعله مثال ما هو بمعنى واحد مع اختلاف الألفاظ. ولا شك أن ذا الرحمة هو الذي ثبت أن له الرحمة وصح أنها له صفة، وأن الراحم هو الموصوف بأنه سيرحم، أو قد رحم فانقضى ذلك منه، أو هو فيه. ولا دلالة له فيه حينئذ أن الرحمة له صفة، كالدلالة على أنها له صفة إذا وصفه بأنه ذو الرحمة. فأين معنى الرحمن الرحيم على تأويله من معنى الكلمتين يأتيان مقدرتين من لفظ واحد باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني؟ ولكن القول إذا كان غير أصل معتمد عليه كان واضح عواره.
وإن قال لنا قائل: ولم قدم اسم الله الذي هو الله على اسمه الذي هو الرحمن، واسمه الذي هو الرحمن على اسمه الذي هو الرحيم؟
قيل: لأن من شأن العرب إذا أرادوا الخبر عن مخبر عنه أن يقدموا اسمه، ثم يتبعوه صفاته ونعوته. وهذا هو الواجب في الحكم: أن يكون الاسم مقدما قبل نعته وصفته، ليعلم السامع الخبر عمن الخبر فإذا كان ذلك كذلك، وكان لله جل ذكره أسماء قد حرم على خلقه أن يتسموا بها خص بها نفسه دونهم، وذلك مثل "الله"، و "الرحمن" و "الخالق"؛ وأسماء أباح لهم أن يسمي بعضهم بعضا بها، وذلك كالرحيم، والسميع، والبصير، والكريم، وما أشبه ذلك من الأسماء؛ كان الواجب أن يقدم أسماءه التي هي له خاصة دون جميع خلقه، ليعرف السامع ذلك من توجه إليه الحمد والتمجيد ثم يتبع ذلك بأسمائه التي قد تسمى بها غيره، بعد علم المخاطب أو السامع من توجه إليه ما يتلو ذلك من المعافي. فبدأ الله جل ذكره باسمه الذي هو الله؛ لأن الألوهية ليست لغيره جل ثناؤه بوجه من الوجوه، لا من جهة التسمي به، ولا من جهة المعنى. وذلك أنا قد بينا أن معنى الله هو المعبود، ولا معبود غيره جل جلاله، وأن التسمي به قد حرمه الله جل ثناؤه، وإن قصد المتسمي به ما يقصد المتسمي بسعيد وهو شقي، وبحسن وهو قبيح.
أو لا ترى أن الله جل جلاله قال في غير آية من كتابه: {أإله مع الله} فاستكبر ذلك من المقر به، وقال تعالى في خصوصية نفسه بالله وبالرحمن: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} [الإسراء: 110] ثم ثنى باسمه، الذي هو الرحمن، إذ كان قد منع أيضا خلقه التسمي به، وإن كان من خلقه من قد يستحق تسميته ببعض معانيه؛ وذلك أنه قد يجوز وصف كثير ممن هو دون الله من خلقه ببعض صفات الرحمة، وغير جائز أن يستحق بعض الألوهية أحد دونه؛ فلذلك جاء الرحمن ثانيا لاسمه الذي هو "الله".
وأما اسمه الذي هو"الرحيم" فقد ذكرنا أنه مما هو جائز وصف غيره به. والرحمة من صفاته جل ذكره، فكان إذ كان الأمر على ما وصفنا، واقعا مواقع نعوت الأسماء اللواتي هن توابعها بعد تقدم الأسماء عليها. فهذا وجه تقديم اسم الله الذي هو " الله " على اسمه الذي هو " الرحمن "، واسمه الذي هو " الرحمن " على اسمه الذي هو " الرحيم ".
وقد كان الحسن البصري يقول في الرحمن مثل ما قلنا، أنه من أسماء الله التي منع التسمي بها لعباده.
125 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا حماد بن مسعدة، عن عوف، عن الحسن، قال: الرحمن اسم ممنوع.
مع أن في إجماع الأمة من منع التسمي به جميع الناس ما يغني عن الاستشهاد على صحة ما قلنا في ذلك بقول الحسن وغيره.
 

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع