إعلانات المنتدى


شبهات الغلاة في التكفير

الأعضاء الذين قرؤوا الموضوع ( 0 عضواً )

الحالة
مغلق و غير مفتوح للمزيد من الردود.

يوسف الجزائري

عضو كالشعلة
25 أغسطس 2007
451
1
0
الجنس
ذكر
القارئ المفضل
ماهر حمد المعيقلي
شبهات الغلاة في التكفير (الحلقة الأولى)

بقلم : فضيلة الشيخ محمد حاج عيسى الجزائري-حفظه الله-

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين ، أما بعد: فإن ظاهرة الغلو في التكفير من الظواهر الخطيرة التي ينبغي الاهتمام بعلاجها
وربما كانت أولى بالعناية من كثير من مظاهر الفساد الأخرى لما لها من آثار سيئة على المجتمع الإسلامي ومسيرة الدعوة إلى الله، لذلك رأيت أن أكتب مقالات موجزة أرد فيها بعض شبه الغلاة المضللة وأفكارهم الخاطئة وآراءهم الباطلة التي لا تزال تروج في العالم، وتستغل لإضلال الشباب وحمله على تكفير المسلمين واستباحة دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وقد سميت هذه المقالات بشبهات الغلاة في التكفير ليعلم أننا لسنا ننكر التكفير الذي هو حكم الشرعي خاضع للنصوص الشرعية والضوابط الفقهية، لأن تكفير من كفره الله ورسوله واجب كل موحد يبرأ من الشرك ومظاهره، ولكننا ننكر الغلو فيه بحيث يحكم على المسلمين بالكفر والردة ظلما وعدوانا، وهذا الغلو والتجاوز للحدود الشرعية له مظاهر في الواقع خلاصتها :
-التكفير بما ليس مكفر من المعاصي وكبائر الذنوب .
-تكفير من لم يتحقق تلبسه بأسباب الكفر التي دلت النصوص على أنها كفر.
-عدم مراعاة شروط إيقاع حكم الكفر على الأعيان وموانعه.

وسأقتصر في هذه المقالات على مناقشة جزئية مندرجة في الحالة الثالثة ، وهي زعمهم أنه لا يشترط إقامة الحجة على المعين لتكفيره ، وأنه لا أثر لعارض الجهل في ذلك، وذلك بدحض شبهات المخالفين التي كثر المرددون لها، وقد كتب كثير من أهل الإنصاف والاعتدال في هذه المسألة وحققوا الحق فيها من خلال النصوص الشرعية وبيان مواقف الأئمة الأعلام منها، ولا شك أن الجواب عن الشبهات مما يكمل المقصود ويزيد الحق جلاء ويحمي من عرضت له من الإذعان لها.
ومما لابد من التنبيه عليه هنا أن بعض المتحمسين للرد على الغلاة قد أخطأوا الوجهة في النصيحة للأمة في هذه القضية الخطيرة، وجعلوا كل همهم من التحذير من بعض الأفراد المخالفين ممن تبنى فكر الغلاة في التكفير، وليس ذلك مما ينصر الحق ويحفظ شباب الأمة من الوقوع في هذا المحذور، لأن الناصح لا يمكنه أن يحصي أسماء المخالفين أجمعين، لأجل لم أحرص على تسمية المخالفين إلا حيث رأيت المصلحة في ذلك، والناس إذا عرفوا الحق تمسكوا به وعظموا أهله وإذا عرفوا الباطل اجتنبوه وأهله، وكم رأينا من الشباب الملتزم بمنهج السلف إجمالا قد غرته شبهات المخالفين وجرته إلى الغلو في التكفير لعدم الحصانة العلمية التي تقيه من مهاوي الانحراف، وأكثر هؤلاء المتحمسين المشار إليهم قد أهملوا الجانب العلمي التأصيلي فتراهم يناقشون الكتابات الأدبية المستندة إلى العاطفة الدينية التي لا تؤثر غالبا إلا في العوام وأشباه العوام، ويتركون نقد كتب التنظير العقدي لهذا الفكر التي تصطبغ بالصبغة العلمية، ويستند أصحابها إلى الأدلة الشرعية!! وأقوال علماء السلف والخلف!! وما أكثر هذه الكتب وما أكثر القائلين بما فيها، فهذه المقالات إسهام بحسب الطاقة في بيان الحق وتكميل لجهود غيرنا من الناصحين لله ولدينه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، نسأل الله تعالى أن ينفع بها وأن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم وهو حسبي ونعم الوكيل.

الشبهة الأولى: تحكيم العقل
من شبهات من يجنح إلى تكفير المسلمين الواقعين في الشرك من غير اشتراط إقامة الحجة وإزالة عارض الجهل والشبهة عنهم، أن حقيقة التوحيد مدركة بالعقل متوصل إليها بالنظر غير متوقفة على إرسال الرسول، وهذا مذهب المعتزلة والماتريدية، قال أبو منصور الماتريدي في تفسيره لقوله تعالى : ( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (النساء:165) : « نفيه الحجة إنما هي في العبادات والشرائع التي سبل معرفتها الرسل أما معرفة الله فإن سبيل لزومها العقل فلا يكون لهم ذلك على الله حجة » (انظر الماتريدية دراسة وتقويما(147)). وقد اعتمد هذا الرأي كثير من الغلاة مع زعمهم الانتساب إلى السنة، ولما قال ابن تيمية في الدرء (8/492) : « وهذا مذهب المعتزلة ومن وافقهم من أصحاب أبي حنيفة» ويعني بأصحاب أبي حنفية الماتريدية منهم، نقله بعض المعاصرين عن المعتزلة وجمهور الحنفية ([1])، ليكون قولا لبعض أهل السنة، ثم بعدها شكك في وجود من لم تبلغه دعوة التوحيد ليصير خلاف من نازع في تحكيم العقل -وهم جمهور أهل السنة عنده -خلافا لفظيا ، لأن اشتراط بلوغ الحجة عن طريق الرسل يصبح أمرا لا معنى له لأنه شرط متحقق في كل عصر وفي كل مكان. وهذه طريقة من يحكم على من وقع بالكفر في أحكام الدنيا والآخرة، ويحمل قول الله تعالى ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء:15) على العذاب الدنيوي العام .
ومن الغلاة من رام ربط عدم العذر بالجهل مع قضية تحكيم العقل من جهة التحسين والتقبيح العقلي على مذهب أهل السنة لا على مذهب المعتزلة، ذلك أن الفرق الإسلامية في هذه القضية طرفان ووسط ، فالأشعري ومن تبعه نفوا الحسن والقبح العقليين مطلقا عن أفعال العباد قبل الشرع، وبالتالي لا يترتب على ذلك ولا حسن ولا قبح ولا تكليف إلا بورود الشرع، والمعتزلة ومن تبعهم أثبتوا الحسن والقبح لأفعال العباد بمجرد العقل وقبل ورود الشرع ورتب على ذلك الثواب والعقاب، وأهل السنة المحضة قالوا:إن أفعال العباد متصفة بصفات حسنة وسيئة تقتضي الحمد والذم، ولكن لا يعاقب أحد إلا بعد بلوغ الرسالة كما دل عليه القرآن في قوله تعالى: ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء: 15)، وفي قوله: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) (الملك:8-9) ([2])، وقد استنتجوا من مذهب أهل السنة المذكور : « أن القوم قبل البعثة وإقامة الحجة معذورون في أحكام وغير معذورين في أحكام أخرى . معذورون في أنهم لا يعذبون في الدنيا والآخرة حتى تقام عليهم الحجة الرسالية وهذا من رحمه الله وفضله . وغير معذورين في اقترافهم الشرك وما ينبني عليه من أحكام مثل عدم دفنهم في مقابر المسلمين ولا الصلاة عليهم وعدم القيام على قبورهم والاستغفار لهم ولا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم ولا يدخلون الجنة وهو أعظمها « ([3])). وهذه طريقة من ينفي العذاب الدنيوي والأخروي عمن وقع الشرك مع الحكم عليه بالشرك تعيينا من غير إقامة حجة. والذي يجمعهم جميعا هو الاعتماد على حجة العقل .
الجواب عن هذه الطريقة في الاستدلال أنها معلومة الفساد عند أهل السنة والجماعة، فمما هو متقرر عندهم أن العقل لا حكم له لا قبل الشرع ولا بعده، وأن مناط التكليف هو الشرع، وقد تواترت بذلك النصوص الشرعية وأجمع عليه السلف، وهو أمر لا يخفى على من كان له إلمام بقضايا التوحيد، قال تعالى : ( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) (يوسف:40) وقال سبحانه : ( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (الشورى:21).
والمخالفون دفعهم هذا الاعتقاد الفاسد إلى تأويل النصوص التي تدل على معتقد أهل السنة بتأويلات متكلفة وتخرصات وظنون كاذبة ، كتخصيص الحجة التي يقيمها الرسل بتفاصيل الشرائع دون أصل الدين وتوحيد رب العالمين ، وحمل العذاب المنفي في قوله تعالى : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء: 15) على عذاب الاستئصال في الدنيا فقط، وأعجب من كل ذلك أن يتأول الرسول المبعوث بالعقل المبثوث .
وأما ثبوت الحسن والقبح للأفعال قبل الشرع عند أهل السنة فلا يستلزم التكفير ولا علاقة له بإثبات الأحكام الشرعية مطلقا، فما زين به ذلك المستدل قولَه آيل إلى قول المعتزلة وإن خالفهم في العذاب الأخروي، لأنه رتب على التحسين والتقبيح أحكاما شرعية وهذا قول المعتزلة لا قول أهل السنة، وإذا كانت الأحكام المذكورة صحيحة في حق من لم يعرف دين الإسلام ولم يلتزم به في الجاهلية أو بعدها، فليس مستندها هو التحسين والتقبيح، ولا يلزم أن تكون صحيحة في حق من عرف الإسلام والتزم التزاما مجملا ثم وقع في شيء من نواقضه جهلا.

الشبهة الثانية : الاستدلال بالفطرة
ومنهم من يستدل على قيام الحجة بالفطرة التي فطر الله الناس عليها وهي الإسلام، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه » رواه البخاري ومسلم .
والجواب : نعم المقصود بالفطرة في الحديث فطرة الإسلام كما فسرها أبو هريرة راوي الحديث وكما دل عليها الحديث القدسي :« خلقت عبادي حنفاء كلهم » رواه مسلم. لكن لا تلازم بين ثبوت خلق الإنسان على الفطرة وبين قيام الحجة عليه بحال، قال ابن تيمية : « وإذا قيل إنه ولد على فطرة الإسلام أو خلق حنيفا ونحو ذلك، فليس المراد به أنه حين خرج من بطن أمه يعلم هذا الدين ويريده ، فإن الله تعالى يقول: ( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) (النحل:78)، ولكن فطرته مقتضية موجبة لدين الإسلام لمعرفته ومحبته، فنفس الفطرة تستلزم الإقرار بخالقه ومحبته وإخلاص الدين له وموجبات الفطرة ومقتضاها تحصل شيئا بعد شيء بحسب كمال الفطرة إذا سلمت عن المعارض، وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك أكثر من غيره، كما أن كل مولود يولد فإنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من الأغذية والأشربة فيشتهي اللبن الذي يناسبه»([4]). ثم قال : « إذا ثبت أن نفس الفطرة مقتضية لمعرفته ومحبته حصل المقصود بذلك وإن لم تكن فطرة كل أحد مستقلة بتحصيل ذلك، بل يحتاج كثير منهم في حصول ذلك إلى سبب معين للفطرة كالتعليم والتخصيص فإن الله قد بعث الرسل وأنزل الكتب ودعوا الناس إلى موجب الفطرة من معرفة الله وتوحيده فإذا لم يحصل مانع يمنع الفطرة وإلا استجابت لله ورسله لما فيها من المقتضي لذلك، ومعلوم أن قول كل مولود يولد على الفطرة ليس المراد به أنه حين ولدته أمه يكون عارفا بالله موحدا له بحيث يعقل ذلك فإن الله يقول: ( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) (النحل:78)، ونحن نعلم بالاضطرار أن الطفل ليس عنده معرفة بهذا الأمر، ولكن ولادته على الفطرة تقتضي أن الفطرة تقتضي ذلك وتستوجبه بحسبها، فكلما حصل فيه قوة العلم والإرادة حصل من معرفتها بربها ومحبتها له ما يناسب ذلك »([5]).

الشبهة الثالثة : الاستدلال بآية الميثاق
وأشهر ما يلبس به الغلاة في نفي العذر بالجهل الاستدلال بقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) (الأعراف:172) ومع أن وجه الاحتجاج بها هو عين وجه الاحتجاج بالفطرة إلا أن الغلاة يعتمدون عليها ويطيلون في شرحها ونقل كلام العلماء فيها، لما في ألفاظها من عبارات متشابهة، ولما في كلام المفسرين فيها من إطلاقات موهمة.

وقبل الجواب نلخص مذاهب أهل السنة في تفسيرها، إذ لهم في قولان مشهوران :
أحدهما : أن معنى "الأخذ" فيها هو إيجادهم قرنا بعد قرن، ومعنى "الإشهاد" نصب الأدلة القاطعة على ربوبيته واستحقاقه للعبادة ، ومعنى "قالوا بلى" هو إقرارهم بربوبيته وهو شهادتهم على أنفسهم بأنه ربهم في حياتهم بعد خلقهم ، وهذا الإقرار خلقوا عليه وجبلوا لا يمكن لأحد حجده ، وليس المراد أنه إشهاد لجميعهم في يوم واحد ولو كان ذلك مقصودا لما كان فيه حجة عليهم لأنه لا يذكره أحد عند وجوده في الدنيا وممن اختار هذا التفسير ابن تيمية وابن القيم (انظر الدرء (8/482-491)).
والقول الثاني : أن الله أخرج جميع ذرية آدم من ظهور الآباء في صورة الذر وأشهدهم على أنفسهم وأجابوه بلسان المقال ولا بلسان الحال، ثم أرسل بعد ذلك الرسل مذكرة بذلك الميثاق الذي نسيه الكل ، وإخبار الرسل به يحصل به اليقين بوجوده، وذهب إليه الشنقيطي رحمه الله تعالى في أضواء البيان (2/335-337)
وبعد هذا التوضيح يتبين أنه لا حجة في الآية مطلقا على عدم العذر بالجهل لا على القول الأول ولا على القول الثاني، لأن القول الأول راجع إلى معنى الفطرة وقد علم الجواب عنه، والقول الثاني اشترط فيه تذكير الرسل .
قال الشنقيطي: « فمن ذلك قوله تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) فإنه قال فيها حتى نبعث رسولا ولم يقل حتى تخلق عقولا وتنصب أدلة وتركز فطرة ، ومن ذلك قوله تعالى :] رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ )(النساء: 165) فصرح بأن الذي تقوم به الحجة على الناس وينقطع به عذرهم هو إنذار الرسل لا نصب الأدلة والخلق على الفطرة ».
فإن قيل فكيف تفسرون الآية بعدها : ( أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ )(الأعراف:173) قيل : ذكر لهم حجتين يدفعهما هذا الإشهاد ، إحداهما دعوى الغفلة وهي حجة المعطلين الحاجدين للفطرة لوجود الخالق، والثانية اتباع الآباء وهي حجة المشركين، وهذا يقتضي أن الفطرة وحدها حجة في بطلان الشرك، ومع ذلك فليس في ذلك نفي للعذر بالجهل، قال ابن تيمية رحمه الله : « وهذا لا يناقض قوله تعالى : (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء:15) فإن الرسول يدعو إلى التوحيد لكن إن لم يكن في الفطرة دليل عقلي يعلم به إثبات الصانع لم يكن في مجرد الرسالة حجة عليهم، فهذه الشهادة على أنفسهم التي تتضمن إقرارهم بأن الله ربهم ومعرفتهم بذلك وأن هذه المعرفة والشهادة أمر لازم لكل بني آدم به تقوم حجة الله تعالى في تصديق رسله فلا يمكن أحدا أن يقول يوم القيامة إني كنت عن هذا غافلا، ولا أن الذنب كان لأبي المشرك دوني لأنه عارف بأن الله ربه لا شريك له فلم يكن معذورا في التعطيل ولا الإشراك بل قام به ما يستحق به العذاب، ثم إن الله بكمال رحمته وإحسانه لا يعذب أحدا (إلا) بعد إرسال رسول إليهم وإن كانوا فاعلين لما يستحقون به الذم والعقاب »([6]).

تحريفات صاحب الجواب المفيد
بعد أن بينا أن آية الميثاق تدل على ثبوت الفطرة، وأنها على قول أهل السنة لا تكون حجة موجبة للعذاب في الدنيا أو الآخرة نأتي إلى كشف بعض تحريفات الغلاة لنصوص العلماء وتعمد البتر المغير للمعنى. نقل صاحب الجواب المفيد (330) مجموعة من النصوص المنتقاة من كلام ابن القيم ونحن نوردها في سياقها ليبين البتر وأثره .
قال ابن القيم في كتاب الروح (164-165) : « وزاد الجرجاني بيانا لهذا القول فقال حاكيا عن أصحابه أن الله لما خلق الخلق ونفذ علمه فيهم بما هو كائن وما لم يكن بعد مما هو كائن كالكائن إذ علمه بكونه مانع من غير كونه شائع في مجاز العربية أن يوضع ما هو منتظر بعد مما لم يقع بعد موقع الواقع لسبق علمه بوقوعه كما قال عز وجل في مواضع من القرآن كقوله تعالى: ونادى أصحاب النار ونادى أصحاب الجنة ونادى أصحاب الأعراف، [قال فيكون تأويل قوله وإذ أخذ ربك وإذ يأخذ ربك وكذلك قوله: (وأشهدهم على أنفسهم ) أي ويشهدهم مما ركبه فيهم من العقل الذي يكون به الفهم ويجب به الثواب والعقاب وكل من ولد وبلغ الحنث وعقل الضر والنفع وفهم الوعد والوعيد والثواب والعقاب صار كأن الله تعالى أخذ عليه الميثاق في التوحيد بما ركب فيه من العقل وأراه من الآيات والدلائل] على حدوثه وأنه لا يجوز أن يكون قد خلق نفسه وإذا لم يجز ذلك فلا بد له من خالق هو غيره ليس كمثله».
فهذا الكلام الذي بين معكوفين هو ما نقله منسوبا لابن القيم وهو من كلام الجرجاني المذكور ، وإن فيه عقيدة اعتزالية حيث جعل العقل موجبا للثواب والعقاب، ومع كل ذلك فقد تكلم ابن القيم بما ينقض ما أراده الناقل من قيام الحجة بمجرد الميثاق والعقل ، وسيأتي نقله .
قال ابن القيم في الروح (167) : « [ولما كانت آية الأعراف هذه في سورة مكية ذكر فيها الميثاق والإشهاد العام لجميع المكلفين ممن أقر بربوبيته ووحدانيته وبطلان الشرك وهو ميثاق وإشهاد تقوم به عليهم الحجة وينقطع به العذر وتحل به العقوبة ويستحق بمخالفته الإهلاك] فلابد أن يكونوا ذاكرين له عارفين به وذلك ما فطرهم عليه من الإقرار بربوبيته وأنه ربهم وفاطرهم وأنهم مخلوقين مربوبون، ثم أرسل إليهم رسله يذكرونهم مما في فطرهم وعقولهم ويعرفونهم حقه عليهم وأمره ونهيه ووعده ووعيده ». نقل الكلام المنقول بيت معكوفين وترك قول ابن القيم بعده :« الخامس : أنه سبحانه أخبر أن حكمة هذا الإشهاد إقامة الحجة عليهم لئلا يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، والحجة إنما قامت عليهم بالرسل والفطرة التي فطروا عليها كما قال تعالى: ( رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (النساء:165)». وقوله :« الثامن قوله تعالى: ( أفتهلكنا بما فعل المبطلون ) أي لو عذبهم بجحودهم وشركهم لقالوا ذلك وهو سبحانه إنما يهلكهم لمخالفة رسله وتكذيبهم فلو أهلكهم بتقليد آبائهم في شركهم من غير إقامة الحجة عليهم بالرسل لأهلكهم بما فعل المبطلون أو أهلكهم مع غفلتهم عن معرفة بطلان ما كانوا عليه وقد أخبر سبحانه أنه لم يكن ليهلك القرى بظلم وأهلها غافلون وإنما يهلكهم بعد الإعذار والإنذار ».
تلبيس صاحب العذر بالجهل تحت المجهر
وأما صاحب العذر بالجهل تحت المجهر (42-43) فبعد أن قرر أن من وقع في الشرك فهو مشرك باتفاق لأن الخلاف واقع في العذاب لا في الاسم قال : « وهذا الموضع ضل فيه كثير من العقول والأفهام لظنها أن قوله تعالى : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء:15) حجة في إعذار من يقع في الشرك بالله، وأنه ما زال مسلما موحدا مع انغماسه في الشرك وقطعوا بنجاته في الدارين إلا أن تقام عليه الحجة الرسالية ، ويرد على الزعم الباطل هذا البحث الذي بين أيدينا الذي اتفق عليه العلماء : على أن من وقع في الشرك من أهل الفترات الذين هم في غياب عن الشرائع وفي طموس من السبل فهو مشرك لنقضه حجية الميثاق والفطرة وأن العقل حجة على هذا ».

الجواب :
أولا : أن تسمية المشركين الذين ليسوا بمسلمين بالمشركين وملازمة وصف الشرك لهم فليست متوقفة على حجية الميثاق أو الفطرة والعقل، فنحن نسمي المشرك مشركا ونسمي اليهودي يهوديا والمجوسي مجوسيا لانتسابه لهذا الدين ولعدم اقراره بالتوحيد الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم .
ثانيا : وإذا أثبت بالحجج واتفاق العلماء أن المشركين مشركون، فلا يلزم من ذلك أن يحكم على المسلمين بالمقرين بالشهادة والملتزمين بالإسلام وشعائره إذا جهلوا بعض صور العبادة فأشركوا فيها مع الله غيره .
وقال صاحب المجهر (43) : « فلو لم تكن آية الميثاق حجة مستقلة في الإشراك فبأي حجة حكم العلماء بها عليهم بالشرك؟ ».
والجواب واضح يحكمون عليهم بالظاهر منهم، والذي يفهم من هذا التساؤل أنه لولا آية الميثاق لكان هؤلاء المشركين في عداد المسلمين !! لكن من يقول هذا ، بل هو مشركون ونحن مستغنون عن الاستدلال على ذلك.
وقال أيضا :« وما الحال فيمن وقع في الشرك بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وكل تراثه محفوظ وآيات الله وأحاديث نبيه تتلى عليهم ليل نهار والموحدون في كل بيت من بيوتهم ». ومعنى كلامه أنا إذا حكمنا بالشرك على أصحاب الفترات فالحكم على هؤلاء (المسلمين) أولى .
الجواب عن هذا ، أن يقال : نعم من كان في بيته موحدون يدعونه ويبينون له التوحيد فقد قامت عليه الحجة أما مجرد تلاوة القرآن والحديث فلا تقوم بها حجة، لأنه يحتاج إلى تفسير وبيان وليس كل الناس يفهم القرآن.
قال ابن حزم في الإحكام (1/71) : « وكل ما قلنا فيه إنه يفسق فاعله أو يكفر بعد قيام الحجة عليه، فهو ما لم تقم عليه الحجة معذور مأجور وإن كان مخطئا وصفة قيام الحجة عليه هو أن تبلغه فلا يكون عنده شيء يقاومها وبالله تعالى التوفيق».
 

أبو معاذ الجزائري

مزمار ذهبي
11 أكتوبر 2007
1,132
17
38
الجنس
ذكر
القارئ المفضل
محمد أيوب
علم البلد
رد: شبهات الغلاة في التكفير

بارك الله فيك أخي يوسف وحفظ الله الشيخ محمد حاج عيسى اللهم أمين
 

ذئب الإسلام

مزمار ألماسي
1 مارس 2007
1,888
2
0
الجنس
ذكر
رد: شبهات الغلاة في التكفير

مجهود مبارك أخي الكريم

وبارك الله فيك
 

البراء بن مالك

مدير قناة مزامير على YouTube
المشرفون
مشرف تسجيلات الموقع
24 فبراير 2006
9,482
60
48
الجنس
ذكر

عبيد الجزائري

مزمار ألماسي
13 مارس 2007
1,867
1
38
الجنس
ذكر
رد: شبهات الغلاة في التكفير

بارك الله فيك أخي يوسف
 

يوسف الجزائري

عضو كالشعلة
25 أغسطس 2007
451
1
0
الجنس
ذكر
القارئ المفضل
ماهر حمد المعيقلي
رد: شبهات الغلاة في التكفير

بارك الله فيك أخي يوسف وحفظ الله الشيخ محمد حاج عيسى اللهم أمين

و فيك بارك الله أخي أبو معاذ

مجهود مبارك أخي الكريم

وبارك الله فيك

و فيك بارك الله

بارك الله فيك وفي مجهودك

و فيك بارك الله

شكر الله لك أخي الحبيب

أحسن الله إليك و أحبك

بارك الله فيك أخي يوسف

و فيك بارك الله أخي عبيد
 

أبوعديل

مزمار ذهبي
9 مارس 2007
1,193
1
0
الجنس
ذكر
رد: شبهات الغلاة في التكفير

جزيت الجنة .
 

يوسف الجزائري

عضو كالشعلة
25 أغسطس 2007
451
1
0
الجنس
ذكر
القارئ المفضل
ماهر حمد المعيقلي
رد: شبهات الغلاة في التكفير

شبهات الغلاة في التكفير (الحلقة الثانية)

الشبهة الرابعة: عدم التفريق بين المسلمين والمشركين الأصليين

ومن الشبه التي يتمسك بها المخالفون عدم التفريق بين
المسلمين الواقعين في الشرك والمشركين الأصليين،وقياسهم عليهم في عدم العذر بالجهل.
وخلاصة هذه الحجة عندهم أن الله تعالى وصف المشركين بالشرك قبل قيام الحجة الرسالية في نصوص كثيرة كقوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ)[التوبة:6] فوصفه بالشرك قبل أن يسمع كلام الله تعالى الذي تقوم به الحجة ، وقال : ( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ)[البينة:1] فوصفهم بالشرك قبل أن تأتيهم البينة.
ويعللون عدم قيام الحجة عليهم بهذه الظواهر إضافة إلى ما هو متقرر معروف من أن النبي صلى الله عليه و سلم أرسله الله تعالى بعد فتور الرسالات قال تعالى : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[المائدة:19].
ثم انقسم هؤلاء الغلاة إلى فريقين منهم من قال بالتلازم بين الشرك والقتال إلا عذاب الآخرة فيحتاج إلى قيام الحجة، ومنهم من قال لا قتال في الدنيا ولا عذاب في الآخرة حتى تقام الحجة، إلا أنهم كفار لا يصلى عليهم ولا يصلى خلفهم ولا تناكح ولا توارث .

والجواب عن هذا من وجوه :
أولا : أن وصف الشرك الوارد في حق الكفار والمشركين الأصليين الذين لم يشهدوا لله تعالى بالوحدانية ولمحمد صلى الله عليه و سلم بالرسالة، لا يجوز إيقاعه على المسلمين عينا، والتسوية بين المشركين والمسلمين في الاسم (الكفر) فضلا عن الحكم (القتال والعذاب الأخروي) بين الفريقين ظلم وجور وخلاف الأدلة الشرعية ، والصواب الذي تؤيدة النصوص الشرعية أن المشركين يستحقون هذا الاسم لعدم توحيدهم قبل قيام الحجة ولا يحكم عليهم بالنار إلا بعدم قيامها لصحة الحديث في امتحان أهل الفترة، وأن المسلمين الملتزمين بشريعة الإسلام إجمالا إذا وقعوا في الشرك جهلا ، فهم معذورون وخطأهم مغفور لهم، ولا يصح أن يقال إنهم يمتحنون بدليل النصوص الكثيرة الواردة في العذر في حقهم، كحديث صاحب الوصية الجائرة الذي غفر الله له ، ومن كان مغفورا له في الآخرة فهو مسلم في الدنيا، ولا يمكن وصفه بالشرك في الدنيا ودخول الجنة في الآخرة.
والحديث خرجه البخاري ومسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم- قَالَ « أَسْرَفَ رَجُلٌ عَلَى نَفْسِهِ فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى بَنِيهِ فَقَالَ إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِى ثُمَّ اسْحَقُونِى ثُمَّ اذْرُونِى فِى الرِّيحِ فِى الْبَحْرِ فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَىَّ رَبِّى لَيُعَذِّبُنِى عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ بِهِ أَحَدًا. قَالَ فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ فَقَالَ لِلأَرْضِ أَدِّى مَا أَخَذْتِ. فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ فَقَالَ لَهُ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ فَقَالَ خَشْيَتُكَ يَا رَبِّ - أَوْ قَالَ - مَخَافَتُكَ. فَغَفَرَ لَهُ بِذَلِكَ » واللفظ لمسلم.
واختلاف الحكم الأخروي من أبين الحجج على اختلاف الأحكام الدنيوية، إذ لا يدخل الجنة في الآخرة إلا مسلم في الدنيا ، ولا يمتحن أحد يوم القيامة إلا لأنه لم يكن مسلما في الدنيا.

ثانيا : ثم إننا لا نوافق على ما يزعمه المخالفون من أن أهل الجاهلية الذي وصفوا في الشرك لم تكن الحجة قائمة عليهم وكانوا في حكم أهل الفترات، بل لم يكونوا منهم وكانت الحجة قائمة عليهم (انظر شرح مسلم للنووي 7/45)، وعلى ذلك دلائل منها: أن إقامة الحجة لا تحتاج إلى وجود رسول ضرورة ، بل يكفى أن يوجد من يعلن بدعوته ، قال الشوكاني في تفسير قوله : ( وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)[القصص:47] : « ومعنى الآية أنا لو عذبناهم لقالوا طال العهد بالرسل ولم يرسل الله إلينا رسولا ، ويظنون أن ذلك عذر لهم ، ولا عذر لهم بعد أن بلغتهم أخبار الرسل ، ولكنا أكملنا الحجة وأزحنا العلة وأتممنا البيان بإرسالك يا محمد إليهم ».
ومنها أنه قد كان في أهل الجاهلية من يعبد الله تعالى ولا يشرك به شيئا كزيد بن عمرو بن نفيل، فقد روى أحمد (2/89) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أنه لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل ( بلدح ) وذلك قبل أن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي فقدم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرة فيها لحم فأبى أن يأكل منه وقال: إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل مما لم يذكر اسم الله عليه .» قال الألباني في صحيح السيرة (1/34) وإسناده صحيح على شرط الشيخين، وفي صحيح البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائما مسندا ظهره إلى الكعبة يقول يا معاشر قريش والله ما منكم على دين إبراهيم غيري .
ومن الدلائل قول النبي صلى الله عليه و سلم : « أبي وأبوك في النار » وقوله: « اسْتَأْذَنْتُ رَبِّى أَنْ أَسْتَغْفِرَ لأُمِّى فَلَمْ يَأْذَنْ لِى وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِى » وهما في صحيح مسلم، ومعنى هذا أن والديه في النار وهذا يدل على أهل الجاهلية ليسوا من أهل الفترات ، لأنه قد ثبت أن أهل الفترة يمتحنون .
ومنها قوله تعالى : ( وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ )[آل عمران: 103]. قال الطبري: وكنتم على طرف جهنم بكفركم الذي كنتم عليه قبل أن ينعم الله عليكم بالإسلام، فتصيروا بائتلافكم عليه إخوانا، ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على ذلك من كفركم، فتكونوا من الخالدين فيها، فأنقذكم بالإيمان الذي هداكم له.
وفي الصحيح أيضاً، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قلت يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟ قال: « لا ينفعه، إنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ». وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة: 158.
ويلزم من يصر على قياس المسلم الذي عرضت له شبهة في مفهوم العبادة بالمشرك الأصلي ومشركي أهل الجاهلية أن يحكم على الجميع بالنار، وهذا ما التزمه بعضهم ممن لا يفرق بين أحكام الدنيا والآخرة ، ولا يشترط إقامة الحجة بإطلاق ، وهذا الرأي أقيس وإن كان أكثر بعدا عن الحق .

ثالثا : ولا يمنع أحد من الاستدلال بالآيات الواردة في الكفار الأصليين على فساد الشرك وبيان أسباب الكفر، فلا نزاع في إثبات كفر النوع (إلا نزاع القبوريين ولا عبرة به)، لكن النزاع في إيقاع اسم الشرك والكفر على المعين من المسلمين ، لذلك فإن من لغو الكلام قول بعض الغلاة " العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب "، ومن التلبيس التمسك بأنه استدل بها العالم الفلاني والفلاني، لأنهم استدلوا بها على فساد الكفر لا على تكفير المعين.

الشبهة الخامسة : التشكيك في إسلام الناس

ولتأكيد عدم الفرق بين المشرك الأصلي وبين المسلم بحث كثير منهم حقيقة الإسلام وكيفية انتقال العبد من الشرك إلى التوحيد، فقرروا أنه لا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين للدخول في الإسلام، بل لابد من تحقق شروطها وعلى رأس هذه الشروط العلم بمعناها وكذلك لابد من العمل بمقتضاها، وربما أوردوا كلاما لبعض أهل العلم يؤيدون به كلامهم كقول المودودي في المصطلحات الأربعة في القرآن (7):« إذا كان الإنسان لا يعرف ما الإله وما معنى الرب وما العبادة وما تطلق عليه كلمة الدين ، فلا جرم أن القرآن يعود في نظره كلاما مهملا لا يفهم من معانيه شيئا ، فلا يقدر أن يعرف حقيقة التوحيد أو يتفطن إلى ماهية الشرك ، ولا يستطيع أن يخص عبادته بالله سبحانه أو يخلص دينه له ». وقرروا أنه لابد من الكفر بالطاغوت لصحة الإيمان ، وبناء على ذلك يقولون إن هؤلاء الذين تدافعون عنهم ولا تريدون تكفيرهم ، ليسوا من المسلمين وأنه لا فرق بينهم وبين المشركين الأصليين واليهود والنصارى ، لأن شهادتهم غير صحيحة لم تتوفر فيها شروط القبول .

والجواب عن هذا من وجوه:
أولا : أن اشتراط العلم بمدلول كلمة التوحيد أمر لا غبار عليه ، لكن من قال إن المسلمين يجهلون معنى الشهادة جهلا تاما كما يجهلها الأعجمي الذي لا يفهم العربية، فإن فهم المعنى الإجمالي لهذه الكلمة موجود في المسلمين اليوم جميعا عربيهم وأعجميهم ، من سلم من الوقوع في مظاهر الشرك ومن لم يسلم، كما أنهم ملتزمون الالتزام المجمل بالشريعة وهذا هو المطلوب للحكم عليهم بالإسلام.

ثانيا : إن جهل بعض المسلمين لبعض مظاهر الشرك أو بعض نواقض الإسلام لا يعني أنهم يجهلون مدلول كلمة التوحيد بإطلاق وأنها لا تنفعهم، كما أن عملهم بما يناقض الشريعة جهلا أو تأولا لا يعني أنهم غير ملتزمين بها، فشرط العلم متحقق في الجملة، لكن يقع التقصير في بعض جزئياته وقد تقع المخالفة العملية منهم دون شعور بمناقضة ذلك للتوحيد، لذلك يشترط أهل السنة إقامة الحجة على المعين قبل تكفيره .

ثالثا : ويقال لمن عاند في هذا ما هو حد العلم المطلوب ؟ هل تقصدون أن يكون عالما بمعنى لا إله إلا الله معرفة مفصلة على نحو معرفة العلماء الربانيين ، فهذا لا يقوله عاقل، ويلزم منه تكفير كثير من الغلاة في التكفير لأنهم يخطئون في تفسير كلمة التوحيد حيث يخصونها بالحاكمية، ويلزم منه تكفير جميع علماء الأشعرية الذين يفسرون كلمة التوحيد بالقدرة على الاختراع والوجود ونحو ذلك، وهذا لا يقوله أحد يدري ما يقول.
قال حافظ حكمي في شرحه لشروط لا إله إلا الله في معارج القبول (2/418):( ومعنى استكمالها اجتماعها في العبد والتزامه إياها بدون مناقضة منه لشيء منها، وليس المراد من ذلك عدّ ألفاظها وحفظها، فكم من عامي اجتمعت فيه والتزمها، ولو قيل له اعددها لم يحسن ذلك، وكم حافظ لألفاظها يجري فيها كالسهم وتراه يقع كثيراً فيما يناقضها والتوفيق بيد الله والله المستعان).

رابعا : لابد أن يتنبه من احتج بهذه الحجة (عدم فهم الناس لكلمة التوحيد وتحقيق شروطها) أن لازم كلامه ليس فقط تكفير من وقع في مظاهر الشرك جهلا، بل تكفير جميع المسلمين الذين لم يحققوا تلك الشروط على وفق ما يتخيله ونحو ما يتصوره ، وهذا قد التزمه طوائف من الغلاة في التكفير كجماعة التكفير والهجرة وأهل التوقف والتبين، وهو لازم لغيرهم ممن قد يتبرأ منهم ويشاركهم في هذه الحجة .

خامسا : أن هؤلاء العلماء الذين أسندوا إليهم تلك المقدمات التي بنوا عليها التسوية بين المشركين والمسلمين الذين لم يحققوا العلم المفصل بمعنى الشهادتين ، هل كانوا يقولون بأقوال الغلاة في التكفير على اختلاف مراتبهم في الغلو؟ الجواب :لا بلا مرية، فهذا المودودي يقول في الكتاب نفسه (11):« ومن الحق الذي لا مراء فيه أنه قد خفي على الناس معظم تعاليم القرآن ، بل غابت عنهم روحه السامية وفكرته المركزية لمجرد ما غشي هذه المصطلحات الأربعة من حجب الجهل ، وذلك من أكبر الأسباب التي تطرق لأجلها الوهن والضعف إلى عقائدهم وأعمالهم على رغم قبولهم دين الإسلام وكونهم في عداد المسلمين »، وقال في موضع آخر :« يجب ملاحظة قضية تكفير المسلم والاحتياط في هذه المسألة احتياطا كاملا يتساوى مع الاحتياط في إصدار فتوى بقتل شخص ما ، وعلينا أن نلاحظ أن في قلب كل مسلم يؤمن بالتوحيد ولا إله إلا الله إيمانا ، فإذا صدر منه شائبة من شوائب الكفر فيجب أن نحسن الظن ونعتبر هذا مجرد جهل منه وعدم فهم وأنه يقصد بهذا التحول من الإيمان على الكفر، لأنه لا يجب أن نصدر ضده فتوى بالكفر بمجرد أن نستمع إلى قوله ، بل يجب علينا أن نفهمه بطريقة طيبة ونشرح له ما أشكل عليه ونبين له الخطأ من الصواب» (نقلا عن ضوابط التكفير لعبد الله القرني 72).

سادسا : ومقصود كثير منهم من تقرير هذه المعاني اعتبار مناقشة شروط التكفير وموانعه لغوا لا معنى له لأنها بحثها إنما هو في حق المسلمين؛ وهؤلاء المختلف فيهم عندهم مشركون أصليون. ويصبح جوابهم عن قول ابن حزم مثلا في الفصل (3/138): «إن كل من ثبت له عقد الإسلام فإنه لا يزول عنه إلا بنص أو إجماع » هذا فيمن ثبت إسلامه وهؤلاء الذين تدافعون عنهم لم يثبت إسلامهم.

تطبيقات بعض الغلاة
بعد أن قرر صاحب المجهر (67-69) أن الكفر بالطاغوت شرط في الإيمان، وهذا لا خلاف فيه قال :« ويبقى سؤال أريد من أخي القارئ الإجابة عليه، وهو من لم يخلع الأنداد أو الأوثان أو عبادة الطواغيت أو ارتضى طاغوتا يسوس العباد ويحكم فيهم بما شاء من تشريعات وأحكام دون الله ورسوله صلى الله عليه و سلم فهل هذا كفر بالطاغوت أم آمن به؟».
وينبغي التنبه إلى أنه قال هذا في بحث كيفية انتقال العبد من الشرك إلى الإسلام، لا في بحث النواقض أو أسباب الردة، وأهل الغلو عموما يخلطون في هذا الباب خلطا عظيما بين الأمرين، وعلى قول صاحب المجهر فإننا إذا دعونا نصرانيا أو وثنيا إلى الإسلام فإنه لا يكون مسلما حتى يكفر بالأنظمة الحاكمة في البلاد الإسلامية جميعا، فإن أبى لم تنفعه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، لست ألزمه هذا فقد صرح بنحوه في الصفحة (72). والذي يدفعهم إلى مثل هذا الخلط والتزام هذه اللوازم، هو ذاك السؤال الذي لم يجدوا له جوابا مقنعا، كيف تجعلون من أتى بالشهادة ومن لم يأت بها من اليهود والنصارى والمشركين سواء ؟
وصاحب المجهر بحث في أحكام الردة وفاته من نصوص الفقهاء قولهم :« وَإِذَا صَلَّى الْكَافِرُ أَوْ أَذَّنَ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ أَصْلِيًّا كَانَ أَوْ مُرْتَدًّا وَسَوَاءٌ صَلَّى جَمَاعَةً أَوْ فُرَادَى بِدَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ الْحَرْبِ ».
وكذلك حقق مذهب ابن عبد الوهاب وفاته قول عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في مصباح الظلام (52-53) :« وإنما تكلم الناس في بلاد المشركين الذين يعبدون الأنبياء والملائكة والصالحين ، ويجعلونهم أندادا لله رب العالمين ، أو يسندون إليهم التصرف والتدبير كغلاة القبوريين ، فهؤلاء تكلم الناس في كفرهم وشركهم وضلالهم ، والمعروف المتفق عليه : أن من فعل ذلك ممن أتى بالشهادتين يحكم عليه بعد بلوغ الحجة بالكفر والردة ولم يجعلوه كافرا أصليا ».

الشبهة السادسة : عدم تأثير الجهل في أحكام الردة
من شبهات نفاة العذر بالجهل إيرادهم كلام بعض أهل العلم المتأخرين في باب الردة، حيث لم يذكروا إقامة الحجة، وذكروا الاستتابة بعد الحكم بالردة، ومن اعتمد الشبه السابقة مع هذه متناقض، إلا أن يقول إنما نذكر هذا جدلا أي إذا سلمنا لكم أن هؤلاء الواقعين في الشرك كانوا مسلمين فهم واقعون في أسباب الردة وهذه لا يعتبر فيها عارض الجهل، لأنه لا معنى للحديث عن ردة من لم يثبت إسلامه عنده، وإني أعلم علم اليقين أن بعضهم إنما يتصيد أي كلام فيه نفي العذر بالجهل ولا يشعر أن الكلام الذي ينقله يدفع بعضه بعضا.

الجواب وعن هذه الشبهة من وجوه:
أولا : لا حجة في كلام فقهاء المذاهب إلا إذا كانوا مجتهدين ثم اتفقوا على رأي لأنه يكون حينئذ إجماعا معتبرا، وأما نقل كلام أصحاب المتون والشراح من المقلدة المتأخرين وتكراره فلا يفيد حجية إلا على المقلدين لتلك المذاهب. وليس في ذلك اتفاق كما سيأتي إذ من الفقهاء المجتهدين من نص على اشتراط العلم في غير الأمور المشهورة كابن قدامة في الكافي الذي قال بعد أن ذكر أسباب الردة :« لأن أدلة هذه الأمور الظاهرة ظاهرة في كتاب الله و سنة رسوله فلا يصدر إنكارها إلا من مكذب لكتاب الله و سنة رسوله ».

ثانيا : الكلام عن الردة في كتب الفقه إن كان كلاما في حكم الأفعال والأقوال وهو كفر النوع فهذا لا مدخل للعوارض فيه لا نفيا ولا إثباتا، لأن الذي يحتاج فيه إلى تفصيل هو الحكم على المعين، وإن كان تعدادا لأمور لا يقبل فيها دعوى الجهل كالقول بقدم العالم وتناسخ الأوراح أو الحلول أو ادعاء النبوة أو تجويز اكتسابها فهذا سواء سكتوا فيه عن نفي العذر أو صرحوا بنفيه أمر لا خلاف فيه.

ثالثا : من الفقهاء من يصرح بنفي العذر وهو يقصد نفي الاعتذار بالجهل في الأحكام القضائية، فمعنى كلامه نفي قبوله لنفي العقوبة وحكم الردة عند القاضي خاصة فيما يستوجب إقامة الحد دون استتابة، وليس المقصود نفي العذر مطلقا. ولهذا نعد من الخطأ نقل بعض الفقهاء:« ولا يجوز أن يعذر أحد بدعوى الجهل » في هذا الموضع، فالعذر بالجهل شيء والاعتذار عند القاضي بالجهل شيء آخر، وفي سب الله تعالى أو دينه أو رسوله نص كثير من العلماء على عدم قبول أي عذر ولو زعم أنه زل لسانه ففي المعيار المعرب (2/543) :« سئل ابن أبي زيد القيرواني عن رجل لعن الله فقال إنما أردت أن ألعن الشيطان فزل لساني، فأجاب ابن أبي زيد :"يقتل بظاهر كفره ولا يقبل عذره وأما بينه وبين الله فمعذور ». ولأجل هذا النظر القضائي المبني على الحكم بالظاهر منهم من نص على صحة ردة السكران مع أن السكران مغلق على عقله.

رابعا : ومع ذلك نقول إن اشتراط قيام الحجة موجود في كلام الفقهاء، فقد تكلم بعضهم عن حالات استثنوها كمن نشأ في بادية بعيدة أو حديث عهد بإسلام ، ونصهم على هاتين الحالتين دليل على اعتبار عارض الجهل، لأنه المعنى المشترك الموجود فيهما، ومن الكلام الذي أوردهم بعضهم في دلالة على هذا المعنى قول السيوطي في الأشباه والنظائر (176):« كل من جهل تحريم شيء مما يشترك فيه غالب الناس اليوم لم يقبل منه إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة » وهو حجة عليه .
ومنهم من أورد قول ابن إبراهيم مفتي السعودية السابق:« قسم يجحد ما علم أن الرسول جاء به وخالف ما علم بالضرورة أن الرسول جاء به؛ فهذا يكفر بمجرد ذلك، [سواء في الأصول أو الفروع]، ولا يحتاج إلى تعريف ما لم يكن حديث عهد بالإسلام ». وهذا كلام صحيح لا غبار عليه لأن الحجة قائمة عليه ، وهذا نص كلامه كاملا من الفتاوى والرسائل (12/199):« تنقسم الأشياء التي يرتد بها إلى ثلاث أقسام :
القسم الأول : يجحد ما علم أن الرسول جاء به وخالف ما علم بالضرورة أن الرسول جاء به ؛ فهذا يكفر بمجرد ذلك ، سواء في الأصول أو الفروع ، ولا يحتاج إلى تعريف ما لم يكن حديث عهد بالإسلام .
والقسم الثاني : ما يخفي دليله ؛ فهذا لا يكفر حتى تقام عليه الحجة من حيث الثبوت ومن حيث الدلالة ، وبعدما تقام عليه الحجة يكفر سواء فهم أو قال ما فهمت أو فهم ووضحت له الحجة بالبيان الكافي ؛ ليس كفر الكفار كله عن عناد ؛ بل العناد قسم من أقسامه ....

والقسم الثالث : أشياء تكون غامضة فهذه لا يكفر الشخص ولو بعد ما أقيمت عليه الدلالة ، وسواء كانت في الفروع أو في الأصول،..
فعرفنا من هذا أنه لا تكفير لأحد إلا بعد قيام الحجة عليه. فالقسم الأول ظاهر ، والقسم الأوسط هو محل هذا في الغالب ، لا الثالث ».
ومن أسباب الردة المعلومة تعطيل صفات رب العالمين ، ومع ذلك فالثابت عن العلماء عدم تكفير الجهمية بأعيانهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (12/488-489):" ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره ممن ضربه وحبسه. واستغفر لهم، وحللهم مما فعلوا به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم، فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع ".
 

ابواويس

مزمار فعّال
22 فبراير 2008
75
0
0
الجنس
ذكر
القارئ المفضل
ناصر القطامي
رد: شبهات الغلاة في التكفير

جزاك الله خير
 

يوسف الجزائري

عضو كالشعلة
25 أغسطس 2007
451
1
0
الجنس
ذكر
القارئ المفضل
ماهر حمد المعيقلي
شبهات الغلاة في التكفير (الحلقة الثالثة)

شبهات الغلاة في التكفير (الحلقة الثالثة) الشبهة السابعة : من سمع القرآن قامت عليه الحجة يتحدث المخالفون عن قيام الحجة لا للتكفير ولكن للحكم بالعذاب الأخروي عند فريق منهم ، وللحكم بالعذاب الأخروي والدنيوي (ويقصدون القتل على وجه الخصوص) عند فريق آخر، فهم يشترطون إقامة الحجة لذلك ويفسرونها بسماع القرآن وربما يبالغون ويقولون بسماع الأذان، ويستدلون بقول الله عز وجل : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ) [الأنعام19] ويقولون : فمن بلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة، وقوله تعالى : (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)[الإسراء15] ويقولون : فمن بلغه القرآن ووقع في الشرك فإنه مشرك يستحق العذاب. الجواب : أولا : لا بد أن ننبه على أن بعضهم يتناقض في هذه المسألة وذلك حين يقول في استدلاله:" فمن بلغه القرآن ووقع في الشرك فإنه مشرك"، ونسي أنه قرر قبل ذلك أن وصف الشرك يثبت عنده مع الجهل قبل قيام الحجة التي هي عنده سماع القرآن ، وهذا مما يبين تهافتهم وعدم التأصيل العلمي لهذه المسألة عندهم. وكذلك يتناقض من يقول إن وصف الشرك يثبت قبل قيام الحجة ، ثم لا يرضى بأن يحتج عليه بنحو قول الشيخ سليمان بن سحمان في الضياء الشارق (93) :« وأما التوسل على عرف غلاة عباد القبور واصطلاحهم الحادث ، فهم (أي الوهابية) ينهون عنه ويكفرون من دعا القبور واستغاث بهم والتجأ إليهم بعد قيام الحجة عليهم ». ويقول إنما يقصد بقيام الحجة سماع القرآن (أو بعثة النبي صلى الله عليه وسلم !!!). فيقال له : ما شأنك وتفسير كلام ابن سحمان وأنت تكفر من يستغيث بغير الله قبل سماع القرآن وقيام الحجة، ثم ندعو هذا القائل إلى تأمل قول ابن سحمان في كتابه منهاج أهل الحق والاتباع (85):" وأما قول السائل : هل كلٌّ تقوم به الحجة أم لا بد من إنسان يحسن إقامتها على من أقامها ؟ فالذي يظهر لي - والله أعلم-أنها لا تقوم الحجة إلا بمن يحسن إقامتها ، وأما من لا يحسن إقامتها كالجاهل الذي لا يعرف أحكام دينه ، ولا ما ذكره العلماء في ذلك ، فإنه لا تقوم به الحجة فيما أعلم". وعند هؤلاء يكفي من يقيم الحجة أن يحسن تلاوة القرآن . ثانيا : وأما من جعل إقامة هذه الحجة الموصوفة للأحكام المذكورة أعلاه بعد ثبوت وصف الشرك والكفر عنده، فيقال لهم إن ظاهر الأدلة كقوله تعالى : : (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)[الإسراء15]نفي العذاب الدنيوي والأخروي، فما دليلكم على التفريق الذي أتيتم به، فإن حمل العذاب المنفي على العذاب الأخروي دون الدنيوي تحكم، وكذلك من حمل العذاب المنفي على العذاب الأخروي والدنيوي، ثم أثبت جميع أحكام الكفر الدنيوية من تفريق بين الأزواج وعدم توريث وعدم الدفن في مقابر المسلمين وتحريم الاستغفار إلا القتل؛ فقد أوغل في التحكم والتناقض . ثالثا : ويقال بعد ذلك إن المقصود من إرسال الرسل توضيح طريق الهداية للناس وبيان التوحيد والتحذير من الشرك، وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يرسل الرسل بألسنة أقوامهم لهم ليحصل البيان قال تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [إبراهيم:4] ومقتضى هذا أن الحجة تقوم على من بُيِّنت له وفهمها ، لا على من تليت عليه الآيات وهو لا يفهمها ، ومنه فلا يجوز أن يقاس الأعاجم والمنتسبون إلى الشعوب العربية من أهل عصرنا على كفار العرب، أهل الفصاحة والبيان الذين خوطبوا بالقرآن. رابعا : من يقول: سماع القرآن أو بلوغ القرآن تقوم به الحجة، ويطلق الأمر كما هو موجود في كثير من الفتاوى والكتابات، يلزمه أن يعمم ذلك في الأعاجم الذين لا يفهمون العربية إطلاقا، فإن قال لا بل هؤلاء لا بد أن تترجم لهم معانيه، قلنا: كذلك غيرهم من المنتسبين إلى الأمم العربية لا بد أن تشرح لهم معانيه اللغوية والشرعية التي خفيت عليهم. وقد يقال لنا هنا: إن هذا الذي حكيتموه عن المخالفين يقول به كثير من الفضلاء ، فنقول : نحن نحب أهل العلم والفضل جميعا، لكن الحق أحب إلينا ، وإن كان هؤلاء أهل علم وفضل فمن خالفهم من أهل العلم والفضل أكثر منهم وأقدم ، وكل يؤخذ من قوله ويرد ، والعبرة بما صح في الدليل . الشبهة الثامنة : بلوغ الحجة يكفى دون فهمها وتبعا للشبهة السابقة يقول بعضهم: إنه لا يشترط في إقامة الحجة فهمها، بل يكفي بلوغها، لأن الله أخبر أن المشركين قامت عليهم الحجة ومع أنهم لم يفهموها ؛ نزل القرآن وسمعوه وجاءهم النذير صلى الله عليه وسلم وأنذرهم واستمروا على كفرهم فلم يعذروا، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار » وقال تعالى في وصف الكفار : ( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [البقرة171] ومع ذلك قامت عليهم الحجة فأخبر أن مثلهم مثلُ من يسمع الصوت ولا يفهم المعنى كمثل الغنم التي ينعق لها الراعي فتسمع الصوت ولا تفهم النداء ، ومنهم من يؤيد مذهبه ببعض متشابه كلام ابن عبد الوهاب في هذه القضية حيث قال :« وقيام الحجة نوع وبلوغها نوع ، وقد قامت عليهم ، وفهمهم إياها نوع آخر ، وكفرهم ببلوغها إياهم وإن لم يفهموها ». والجواب: أولا : أن فهم معاني الآيات والأحاديث ضروري كما سبق ، أما بلوغها دون فهم فلا يعقل أن يكون لها أثر في قيام الحجة وتغير الأحكام ، لذلك يعبر بعض العلماء بقولهم بلوغ الدعوة بدلا من بلوغ القرآن، ويقولون أما الذين لم تبلغهم الدعوة على وجه تقوم به الحجة عليهم فأمرهم إلى الله عز وجل. ثانيا : أن الله تعالى قال: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ)[التوبة:115] فقال:(حَتَّى يُبَيِّنَ) وهذا هو قيام الحجة لا مجرد قراءتها، فإن شوش بعضهم بقوله:" إنه قال "حتى يُبين"، ولم يقل حتى يتيبن"، فيقال له: بَيَّن فتبَيَّن، بدليل قوله تعالى:( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً )[النساء:115] . ثالثا : ولا يصلح هنا التمسك بالآيات التي تنفي الفقه والفهم عن الكفار، لأن المقصود نفي الفقه والفهم المورِّث للانتفاع، لا نفي فهم المعنى المراد، مثله مثل نفي السماع عنهم ، كقوله تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ)[الأنفال:23] فهل يقال إن الحجة قامت عليهم من غير سماع . وهذا هو مراد ابن عبد الوهاب الذي قال في موضع :" فإذا كان المعين يكفَّر إذا قامت عليه الحجة، فمن المعلوم أن قيامها ليس معناه أن يفهم كلام الله ورسوله مثل فهم أبي بكر الصديق رضي الله عنه، بل إذا بلغه كلام الله ورسوله وخلا من شيء يعذر به فهو كافر". وهذا المنهج هو الطريق الذي ينبغي أن يسلك مع النصوص المتشابهة أو التي ظاهرها التعارض ، وكذلك في شرح كلام العلماء وفهم مرادهم، وإلا كيف يصنع المخالف بقول ابن عبد الوهاب :« وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على قبة عبد القادر ، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما لأجل جهلهم وعدم من ينبههم ، فكيف نكفر من لم يشرك بالله ...» وفي بعض النسخ "لأجل جهلهم وعدم من يفهمهم". رابعا : أما الاحتجاج بقوله صلى الله عليه وسلم:« والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار»، على أنه يكفي السماع به دون السماع بموضوع دعوته وفهم مراده فمن أبعد الأمور. وقال الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ: ( وإذا بلغ النصراني ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم- ولم ينقد لظنه أنه رسول الأميين فقط، فهو كافر وإن لم يتبين له الصواب في نفس الأمر، كذلك كل من بلغته دعوة الرسول بلوغا يعرف فيه المراد والمقصود فرد ذلك لشبهة أو نحوها فهو كافر، وإن التبس عليه الأمر وهذا لا خلاف فيه ) [مصباح الظلام ص 326]. وقال بعض أهل العلم: (لا يسمع بي أحد من هذه الأمة) هذا كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «من رآني في المنام فقد رآني»، ففي هذا الحديث المعنى من رآه على صورته التي خلقه الله جل وعلا عليها، وفي حديث (لا يسمع بي) المعنى سمع بي على ما بعثني الله جل وعلا عليه، فإذا كان هناك سماع محرّف، سماع ليس فيه وصف لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم على ما جاء به النبي فهو من جنس رؤية النبي صلى الله عليه وسلم على غير صورته، فلا يكفي ذلك في معرفة الحق، لأنه لابد أن يكون في إيضاح الحجة وإقامتها أن يكون الدين واضحا، لا يكفي أن يسمع ببعض الحجة ولا يفهم معناها" وكذلك من وقع في الشرك من هذه الأمة إذا سمعوا شيئا من أخبار أهل السنة، فإن ذلك لا يكفي ما لم تقم عليهم الحجة؛ بمعنى بيان الدلائل. خامسا : عندما تناقش هؤلاء الغلاة تتيقن أن كل همهم هو الوصول إلى التكفير بأي طريق ، وهذا ما يوقعهم في التناقضات الصريحة، ومن ذلك أنهم يقولون في ثبوت وصف الإسلام لا بد من الفهم المفصل للشهادتين ولا يكفي الفهم المجمل، وقد يكفرون من أخطأ في اللفظ ولو حقق المعنى ، وأما في باب النواقض فيعكسون القضية تماما ، فلا يشترطون لا الفهم المجمل ولا المفصل. سادسا : ومما يبين لنا جليا مراد العلماء الذين فرقوا بين فهم الحجة وقيامها ، وأنهم لا ينفون اشتراط مطلق الفهم ، حديثهم عمن تقوم به الحجة من أهل العلم ، وقد سبق أن نقلت كلام ابن سحمان ، وهذا كلام عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ في مصباح الظلام (207):"تعريف أهل العلم للجهال بمباني الإسلام ، وأصول الإيمان والنصوص القطعية والمسائل الإجماعية حجة عند أهل العلم ، وتترتب عليه الأحكام ، أحكام الردة وغيرها ....إذ النقل والتعريف يتوقف على أهل العلم ، كما أن بيان المعاني المقصودة والتأويلات المرادة يتوقف على أهل العلم وتقوم الحجة بهم ". الشبهة التاسعة : التفريق بين أصول الدين وفروعه في العذر بالجهل وتبعا للشبهة السابعة أيضا منهم من يقول إنما نقصد أن الحجة تقوم ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن أو سماع القرآن في أصول الدين لا فروعه، ثم يحملون كلام العلماء الوارد في إثبات العذر بالجهل على ما يعتبرونه فروعا دون المسائل التي هي من أصول الدين . الجواب : أولا : لا بد لمن يتمسك بهذه الشبهة أن يشرح لنا ضابط التفريق بين الأصول والفروع ، لنشاركهم في النظر في آحاد المسائل هل فيها العذر بالجهل أم لا ، ولنتمكن نحن أيضا من فهم كلام العلماء على وجهه . فإذا قالوا نحن نريد المصطلح المشهور بين أهل الكلام كالمعتزلة ومن تابعهم، من أن الأصول هي العقائد والفروع هي الفقه ، قيل ليس هذا التفريق معتمدا عند أهل السنة ولا يجوز أن يحمل كلامهم على معان قد أنكروها وزيفوها . وإن قالوا الأصول هي الأمور المعلومة من الدين بالضرورة سواء من العقائد أو الفقه ، والفروع هي ما دون ذلك من المسائل الاجتهادية والخفية ، قيل الظهور والخفاء من الأمور النسبية التي تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة ، فما كان ظاهرا في زمان قد يخفى في آخر ، وما كان ظاهرا في مكان قد يخفى في مكان آخر ، وهذه النكتة تحل عقدا كثيرة عند المخالفين لو فقهوها . ثانيا : ومما يرد به أيضا أن هذا التقسيم لا أصل له عند علماء السلف، وهو باطل بدلالة الأدلة الشرعية العامة في إثبات العذر بالجهل، التي توضح أن الجهل حيثما وجد ولا يمكن دفعه يكون سببا لرفع المؤاخذة في الدنيا والآخرة، ولا تفريق فيها بين مسائل الأصول والفروع بأي تفسير من التفسيرات . بل أكثر الأدلة واردة في أصل الدين وفي الأمور الاعتقادية ، فكيف لا تكون شاملة لها . ثالثا : كثير من المخالفين لا يعجبهم كلام ابن تيمية رحمه الله في إثبات العذر بالجهل ، ومنهم من يزعم أن أصحاب الرسائل الجامعية شوشوا على الأمة عقائدها بإخراجهم لكلام ابن تيمية في هذه القضية ، فإذا قيل لهم : هل ابن تيمية مخطئ ؟ قالوا :" لا ، لكن هم لم يفهموا كلامه "، فإذا قيل لهم : ما مراده عندكم ؟ قالوا :" هو يعذر في الفروع دون الأصول "، وهذا الزعم يدفعه كلام ابن تيمية الذي يبطل التفريق بين الأصول الفروع ، والذي ينص فيه على العذر بالجهل فيما هو عندهم من الأصول . أما التقسيم فقال فيه -كما في المجموع-(23/346):" أما التفريق بين نوع وتسميته مسائل الأصول وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع، فهذا الفرق ليس له أصل لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان ولا أئمة الإسلام، وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع، وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم، وهو تفريق متناقض، فإنه يقال لمن فرق بين النوعين: ما حد مسائل الأصول التي يكفر المخطئ فيها؟ وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع؟ فإن قال مسائل الأصول هي مسائل الاعتقاد ومسائل الفروع هي مسائل العمل. قيل له: فتنازع الناس في محمد صلى الله عليه وسلم هل رأى ربه أم لا؟ وفي أن عثمان أفضل من علي، أم علي أفضل؟ وفي كثير من معاني القرآن، وتصحيح بعض الأحاديث هي من المسائل الاعتقادية العلمية، ولا كفر فيها بالاتفاق. ووجوب الصلاة والزكاة والحج وتحريم الفواحش والخمر هي مسائل عملية، والمنكر لها يكفر بالاتفاق. وإن قال: الأصول هي المسائل القطعية، قيل له: كثير من مسائل العمل قطعية، وكثير من مسائل العلم ليست قطعية، وكون المسألة قطعية أو ظنية هو من الأمور الإضافية، وقد تكون المسألة عند رجل قطعية لظهور الدليل القاطع له، كمن سمع النص من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتيقن مراده منه، وعند رجل لا تكون ظنية فضلاً عن أن تكون قطعية لعدم بلوغ النص إياه. أو لعدم ثبوته عنده، أو لعدم تمكنه من العلم بدلالته ، وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الذي قال لأهله : " إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني الله عذابا ما عذبه أحدا من العالمين . فأمر الله البر برد ما أخذ منه والبحر برد ما أخذ منه وقال : ما حملك على ما صنعت ؟ قال خشيتك يا رب فغفر الله له" فهذا شك في قدرة الله . وفي المعاد بل ظن أنه لا يعود وأنه لا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك وغفر الله له ". وأما نصه على إثبات العذر فيما هو من العقائد التي هي أصول عندنا وعندهم (الشرك الأكبر)، فموجود في المثال الذي ضربه في آخر كلامه السابق، وإن كان الغلاة لهم فيه تأويلات سنجيب عنها في حلقة أخرى، ومن نصوصه التي لا يقدرون على تأويلها قوله في الرد على البكري (2/731-732):" فأنا بعد معرفة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن تدعو أحدا من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها ولا بلفظ الاستعاذة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا لغير ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله، لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم مما يخالفه، ولهذا ما بينت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الإسلام إلا تفطن وقال هذا أصل دين الإسلام . وكان بعض الأكابر من الشيوخ العارفين من أصحابنا يقول هذا أعظم ما بينته لنا لعلمه بأن هذا أصل الدين وكان هذا وأمثاله في ناحية أخرى يدعون الأموات ويسألونهم ويستجيرون بهم ويتضرعون إليهم وربما كان ما يفعلونه بالأموات أعظم لأنهم إنما يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم فيدعونه دعاء المضطر راجين قضاء حاجتهم بدعائه والدعاء به أو الدعاء عند قبره بخلاف عبادتهم الله تعالى ودعائهم إياه، فإنهم يفعلونه في كثير من الأوقات على وجه العادة والتكلف". رابعا : ومما نطرحه إلزاما للمخالفين المتمسكين بهذه الشبهة، ما تقولون في الفرق الإسلامية المعتزلة والمرجئة والشيعة والأشاعرة والقدرية والخوارج، هل خلافهم في الأصول أم الفروع؟ وإذا كان خلافهم في الأصول - وهو الحق - فهل تكفرونهم أم لا ؟ أما من يحمل كلام ابن تيمية في التفريق بين التكفير المطلق والتكفير للمعين - الوارد أكثره في الفرق الإسلامية- على المسائل الفرعية ، فيلزمه أن يعد مسائل الصفات والإيمان والقدر مسائل فرعية ولا قائل بهذا فإن هذه المسائل أصلية في الدين مشهورة وأدلتها متواترة . وأما من فرَّ من هذا اللازم فصرح بتكفير الفرق الإسلامية فكذلك لازم قوله رد كلام ابن تيمية جملة وتفصيلا، لا حمله على المسائل الخفية ، لأنه أكثره وارد كما ذكرنا في الفرق ، وإذا كان المخالف يصف من يأبى تكفير الفرق إلا من أقيمت عليه الحجة بالإرجاء فيلزمه أن يصرح برمي ابن تيمية بذلك. خامسا : بعض الغلاة أراد أن يلزم من أنكر أثر التقسيم المذكور في العذر بالجهل بالتسوية بين مسائل الشرك والمعاصي، وبين التوحيد وإماطة الأذى عن الطريق كصاحب المجهر (259). وليس ذلك بلازم فإننا لا ننكر أن مسائل الدين ليست في رتبة واحدة، إذ منها ما هو اعتقدي ومنها ما هو عملي، ومنها ما هو قطعي ومنها ما هو ظني ، وأن خصال الإيمان متفاوتة فمنها ما هو من أصله ومنها مل هو ما كماله الواجب ومنها ما هو من كماله المستحب ، ولكن الذي ننكره هو تخصيص العذر ببعض المسائل دون بعض ، والذي لم يستطع المخالفون فهمه في هذا الأمر: أن قضية القطعية والظنية بل والجهل قضية نسبية تختلف باختلاف الزمان والمكان والأشخاص. وتأمل مثلا قول ابن عبد الوهاب :"فإن الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي كان حديث عهد بالإسلام والذي نشأ ببادية بعيدة أو يكون في مسألة خفية مثل الصرف والعطف فلا يكفر حتى يعرف " والصرف والعطف من أنواع السحر يقصد به صرف الزوجين عن بعضهما البعض والعطف ضده، فهل هذه المسألة مسألة خفية في زماننا هذا في بلاد نجد والحرمين !!! والتفريق الصحيح المقبول هو المبني على اعتبار استفاضة العلم بالمسألة وسهولة طلبها ، وليس على اعتبار التفريق بين مسائل معينة ومسائل أخرى، حتى إذا قيل لا يعذر في المسألة الفلانية ، فذلك لأنها مسألة قد استفاض العلم بها استفاضةً تغلب على الظن عدم الجهل بها إلا من معرض مفرط. ونذكِّر في هذا المقام بما صنعه بعض الجهلة الأغبياء الذين وجدوا في كلام ابن عبد الوهاب تكفير بعض البدو في زمانه فجاءوا إلى البدو في زمانهم بعد مرور قرنين من الزمان، يقولون لهم:" أنتم كفار، وعندنا أدلة من كلام ابن عبد الوهاب" (انظر كتاب منهاج أهل الحق والاتباع في مخالفة أهل الجهل والابتداع لابن سحمان ص14).
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:

الكاسر

مزمار داوُدي
27 فبراير 2006
4,050
12
0
الجنس
ذكر
رد: شبهات الغلاة في التكفير

تم حذف الوجوه التعبيرية

سيغلق الموضوع تبعاً لتعليمات الإدارة

إذا كانت هناك أي إضافة أخي يوسف أخبرني على الخاص
 
الحالة
مغلق و غير مفتوح للمزيد من الردود.

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع