- 28 مايو 2007
- 5,869
- 35
- 0
- الجنس
- ذكر
(بسم الل)
إن طريقة النظم التي اتسقت بها ألفاظ القرآن، وتألفت لها حروف الألفاظ، إنما هي طريقة يتوخى بها إلى أنواع من المنطق وصفات من اللهجة لم تكن على هذا الجه من كلام العرب، ولكنها ظهرت فيه أول شىء على لسان النبي (ص) ، فجعلت المسامع لا تنبو عن شىء من القرآن، ولا تلوى من دونه حجاب القلب، حتى لم يكن لمن يسمعه بدٌ من الاسترسال إليه والتوفر على الإصغاء، لا يستمهلهم أمر من دونه وإن كان أمر العادة، ولا يستنسئه الشيطان وإن كانت طاعته عندهم عبادة، فإنه إنما يسمع ضربا خالصا من الموسيقى اللغوية في انسجامه واطـّراز نسقه واتزانه على أجزاء النـَـفـَس مقطعاً مقطقاًونيرة نبرة كأنها توقعه توقيعا لا تتلوه تلاوة (1).
ويوضح هذا المعنى الدكتور محمد عبد الله دراز فيقول: دع القارىء المجود يقرأ القرآن يرتله حق ترتيله نازلا بنفسه على هوى القرآن، وليس نازلا بالقرآن على هوى نفسه، ثم انتبذ منه مكانا قصيا لا تسمع فيه جَرْسَ حروفه، ولكن تسمع حركاتها وسكناتها، ومداتها وغناتها، واتصالاتها، وسكتاتها، ثم ألق سمعك إلى هذه المجموعة الصوتية وقد جردت تجريداً، وأرسلت ساذجة في الهواء فستجد نفسك منها بإزاء لحن غريب عجيب لا تجده في كلام آخر لو جرّد هذا التجريد، وجوّد هذا التجويد. ستجد اتساقاً وائتلافاً يسترعي من سمعك ما تسترعيه الموسقى والشعر، على أنه ليس بأنغام الموسيقى ولا بأوزان الشعر. وستجد شيئاً آخر لا تجده في الموسيقى ولا في الشعر، ذلك أنك تسمع القصيدة من الشعر فإذا هي تتحد الأوزان فيها بيتاً بيتاً، وشطراً شطراً، وتسمع القطعة من الموسيقى فإذا هي تتشابه أهواؤها، وتذهب مذهبا متقاربا، فلا يلبث سمعك أن يمجها، وطبعك أن يملها، إذا أعيدت وكررت عليك بتوقيع واحد. بينما أنت من القرآن أبدا في لحن متنوع متجدد تنتقل فيه بين أسباب وأوتاد، وفواصل على أوضاع مختلفة يأخذ منها كل وتر من أوتار قلبك بنصيب سواء، فلا يعروك منه على كثرة ترداده ملالة ولا سأم. بل لا تفتأ تطلب منه المزيد.
هذا الجمال التوقيعي في لغة القرآن لا يخفى على أحد ممن يسمع القرآن، حتى الذين لا يعرفون لغة العرب. فكيف يخفى على العرب أنفسهم؟
ثم يقول ــ أيضا ــ فإذا ما اقتربي بأذنك قليلا قليلا، فطرقت سمعك جواهر حروفه خارجة من مخاجها الصحيحة، فاجأتك منه لذة أخرى في نظم تلك الحروف ورصفها، وترتيب أوضاعها فيما بينها: هذا ينقر وذاك يصفر، وثالث يهمس، ورابع يجهر، وآخر ينزلق عليه النفـَس، وهلم جرا، فترى المجال اللغوي ماثلا أمامك في مجموعة مختلفة مؤتلفة، لا كركرة ولا ثرثرة، ولا رخاوة ولا معاظلة، ولا تناكر ولا تنافر، وهكذا ترى كلاماً ليس بالحضري الفاتر، ولا بالبدوي الخشن، بل تراه وقد امتزجت فيه جزالة البادية وفخامتها، برقة الحاضرة وسلاستها، وقدر فيه الأمران تقديراً لا يبغي بعضهما على بعض، فإذا مزيج منهما كأنما هو عصارة اللغتين وسلاستهما، أو كأنما هو نقطة الاتصال بين القبائل عندها تلتقي أذواقهم، وعليها تأتلف قلوبهم (2).
للأستاذ الدكتور السيد إسماعيل علي سليمان
المصادر والمراجع:
(1) إعجاز القرآن والبلاغة النبوية ص 181 لمصطفى صادق الرافعي
(2) النبأ العظيم نظرات جديدة في القرآن ص 101 – 104 بتصرف
______
إن طريقة النظم التي اتسقت بها ألفاظ القرآن، وتألفت لها حروف الألفاظ، إنما هي طريقة يتوخى بها إلى أنواع من المنطق وصفات من اللهجة لم تكن على هذا الجه من كلام العرب، ولكنها ظهرت فيه أول شىء على لسان النبي (ص) ، فجعلت المسامع لا تنبو عن شىء من القرآن، ولا تلوى من دونه حجاب القلب، حتى لم يكن لمن يسمعه بدٌ من الاسترسال إليه والتوفر على الإصغاء، لا يستمهلهم أمر من دونه وإن كان أمر العادة، ولا يستنسئه الشيطان وإن كانت طاعته عندهم عبادة، فإنه إنما يسمع ضربا خالصا من الموسيقى اللغوية في انسجامه واطـّراز نسقه واتزانه على أجزاء النـَـفـَس مقطعاً مقطقاًونيرة نبرة كأنها توقعه توقيعا لا تتلوه تلاوة (1).
ويوضح هذا المعنى الدكتور محمد عبد الله دراز فيقول: دع القارىء المجود يقرأ القرآن يرتله حق ترتيله نازلا بنفسه على هوى القرآن، وليس نازلا بالقرآن على هوى نفسه، ثم انتبذ منه مكانا قصيا لا تسمع فيه جَرْسَ حروفه، ولكن تسمع حركاتها وسكناتها، ومداتها وغناتها، واتصالاتها، وسكتاتها، ثم ألق سمعك إلى هذه المجموعة الصوتية وقد جردت تجريداً، وأرسلت ساذجة في الهواء فستجد نفسك منها بإزاء لحن غريب عجيب لا تجده في كلام آخر لو جرّد هذا التجريد، وجوّد هذا التجويد. ستجد اتساقاً وائتلافاً يسترعي من سمعك ما تسترعيه الموسقى والشعر، على أنه ليس بأنغام الموسيقى ولا بأوزان الشعر. وستجد شيئاً آخر لا تجده في الموسيقى ولا في الشعر، ذلك أنك تسمع القصيدة من الشعر فإذا هي تتحد الأوزان فيها بيتاً بيتاً، وشطراً شطراً، وتسمع القطعة من الموسيقى فإذا هي تتشابه أهواؤها، وتذهب مذهبا متقاربا، فلا يلبث سمعك أن يمجها، وطبعك أن يملها، إذا أعيدت وكررت عليك بتوقيع واحد. بينما أنت من القرآن أبدا في لحن متنوع متجدد تنتقل فيه بين أسباب وأوتاد، وفواصل على أوضاع مختلفة يأخذ منها كل وتر من أوتار قلبك بنصيب سواء، فلا يعروك منه على كثرة ترداده ملالة ولا سأم. بل لا تفتأ تطلب منه المزيد.
هذا الجمال التوقيعي في لغة القرآن لا يخفى على أحد ممن يسمع القرآن، حتى الذين لا يعرفون لغة العرب. فكيف يخفى على العرب أنفسهم؟
ثم يقول ــ أيضا ــ فإذا ما اقتربي بأذنك قليلا قليلا، فطرقت سمعك جواهر حروفه خارجة من مخاجها الصحيحة، فاجأتك منه لذة أخرى في نظم تلك الحروف ورصفها، وترتيب أوضاعها فيما بينها: هذا ينقر وذاك يصفر، وثالث يهمس، ورابع يجهر، وآخر ينزلق عليه النفـَس، وهلم جرا، فترى المجال اللغوي ماثلا أمامك في مجموعة مختلفة مؤتلفة، لا كركرة ولا ثرثرة، ولا رخاوة ولا معاظلة، ولا تناكر ولا تنافر، وهكذا ترى كلاماً ليس بالحضري الفاتر، ولا بالبدوي الخشن، بل تراه وقد امتزجت فيه جزالة البادية وفخامتها، برقة الحاضرة وسلاستها، وقدر فيه الأمران تقديراً لا يبغي بعضهما على بعض، فإذا مزيج منهما كأنما هو عصارة اللغتين وسلاستهما، أو كأنما هو نقطة الاتصال بين القبائل عندها تلتقي أذواقهم، وعليها تأتلف قلوبهم (2).
للأستاذ الدكتور السيد إسماعيل علي سليمان
المصادر والمراجع:
(1) إعجاز القرآن والبلاغة النبوية ص 181 لمصطفى صادق الرافعي
(2) النبأ العظيم نظرات جديدة في القرآن ص 101 – 104 بتصرف
______