إعلانات المنتدى


اسرار تعدية الفعل في القرآن الكريم : رضا الجنايني

الأعضاء الذين قرؤوا الموضوع ( 0 عضواً )

رضا الجنايني

مزمار كرواني
6 يونيو 2008
2,850
27
0
الجنس
ذكر
من أسرار تعدية الفعل في القرآن الكريم​


​
أولا-( من أسرار تعدية الفعل في القرآن الكريم ) عنوان كتاب لمؤلفه: الدكتور يوسف بن عبد الله الأنصاري، الأستاذ المشارك بقسم: البلاغة والنقد- كلية اللغة العربية- جامعة أم القرى. والكتاب يحتوي على مقدمة، وتمهيد، وفصلين، وخاتمة​
.

تحدث المؤلف في المقدمةعن ( أهمية هذا الموضوع )، وذكر أنها تعود إلى أمرين:
أولهما: ارتباطه بفقه الدلالة.. وثانيهما:دقة مسلكه، وغموضه، وخفائه على بعض العلماء .
وتحدث في التمهيد عن ( مفهوم التعدية واللزوم عند النحاة )، فذكر أن الفعل اللازم هو الفعل، الذي يكتفي برفع الفاعل، ولا ينصب مفعولاً به أو أكثر؛ وإنما ينصبه بمعونة حرف جر، أو غيره مما يؤدي إلى التعدية. وأن الفعل المتعدي هو الفعل، الذي ينصب بنفسه مفعولاً به، أو اثنين، أو ثلاثة من غير أن يحتاج إلى مساعدة حرف جر، أو غيره مما يؤدي إلى تعدية الفعل اللازم.
وفي الفصل الأولتحدث المؤلف عن(جهود العلماء في دراسة تعدية الفعل)، وذكر أن من أوائل الإشارات، التي تكشف عن أسرار تعدية الفعل بحروف الجر ما ذكره الإمام الخطابي في قوله:”وأما( من ) و( عن ) فإنهما يفترقان في مواضع؛ كقولك: أخذت منه مالاً، وأخذت عنه علمًا. فإذا قلت: سمعت منه كلامًا، أردت سماعه من فيه. وإذا فلت: سمعت عنه حديثًا، كان ذلك عن بلاغ “.
ومن ذلك ما نقله عن الراغب من قوله في الفرق بين تعدية الفعل( راغ ) بـ( إلى ) و( على )؛ كما في قوله تعالى:
﴿ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ﴾ (الذاريات: 26)
﴿ فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ ﴾(الصافات: 91)
﴿ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ﴾ (الصافات: 93)
واتكأ الدكتور يوسف في هذه الدراسة- كما قال- على الزمخشري؛ لأن كثيرًا من أئمة التفسير كانوا عالة عليه؛ ولأن كتابه ( الكشاف ) يضم بين دفتيه كثيرًا من الأسرار البلاغية لحروف الجر، التي تتعدى بها الأفعال..
ومن ذلك قوله في تعدية الفعل ( جرى ) بـ( إلى )، التي تدل على انتهاء الغاية، وباللام التي تدل على معنى الاختصاص؛ كقوله تعالى:
﴿ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ (لقمان: 29)
﴿ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾(الرعد: 2)
ومما نقله عن الرازي قوله في الفرق بين تعدية الفعل( تاب ) بـ( على ) وبـ( إلى )؛ كما في قوله تعالى:
﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ﴾ (البقرة: 37)
﴿ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ ﴾(الأعراف: 143)
ومما نقله عن أبي حيان قوله في الفرق بين تعدية الفعل( أنزل ) بـ( على ) وبـ( إلى )؛ كما في قوله تعالى:
﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ ﴾(العنكبوت: 51)
﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾(النساء: 105)
ومما نقله عن الألوسي قوله في الفرق بين تعدية الفعل( سارع ) بـ( في )
وبـ( إلى )؛ كما في قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ﴾ (المائدة: 41)
﴿ وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ (آل عمران: 133(
وفي الفصل الثانيمن الكتاب تحدث الدكتور الأنصاري عن ( أسرار تعدية الفعل في القرآن الكريم )، وذكر من الأفعال:( دخل ) و( خرج ) و( جاء ) و( أتى ) و( وذهب ). وفي الحقيقة أن هذا الفصل ما هو إلا تكرار للفصل الأول من حيث المضمون، ولا يكاد يختلف عنه إلا في التسمية. وفي تخلف ما جاء به من أقوال عن الأقوال، التي نقلها عن العلماء في الفصل الأول.
ثانيًا- وتعليقًا على بعض ما جاء في هذا الكتاب أقول، وبالله المستعان:
1-
ما ذكره فضيلته في التمهيد عن مفهوم التعدية، واللزوم عند النحاةهو المشهور في كتب النحو، وهو الذي يردده علماء النحو وطلابه إلى اليوم. وممَّا ينبغي معرفته، والتنبيه إليه هنا، هو أن مصطلح:( الفعل اللازم )يطلق على نوعين من الأفعال، خلافًا للقول السابق:
النوع الأول:أن يكون من الأفعال، التي لا تطلب مفعولاً به ألبتة. وذكر ابن هشام له علامات:
العلامة الأولى:أن يدل على حدوث ذات؛ كقولك: حدث أمر، وعرض سفر.. قال ابن هشام:”فإن قلت: فإنك تقول: حدث لي أمر، وعرض لي سفر. فعندي أن هذا الظرف- يعني: الجارُّ والمجرور- صفة المرفوع المتأخر تقدم عليه، فصار حالاً، فتعلقه أولاً وآخرًا بمحذوف، وهو الكون المطلق. أو متعلق بالفعل المذكور على أنه مفعول لأجله، والكلام في المفعول به “.
والعلامة الثانية:أن يدل على حدوث صفة حسية؛ نحو قولك: طال الليل، وقصر النهار، وخلق الثوب، ونظف، وطهر، ونجس.
والعلامة الثالثة:أن يكون على وزن: فعُل، بضم العين؛ كظُرف المرء، وشرُف، وكرُم، ولؤُم.
والعلامة الرابعة:أن يكون على وزن: انْفَعَلَ؛ نحو قولك: انكسر الزجاج، وانصرف القوم.
والعلامة الخامسة:أن يدل على عَرَضٍ؛ كمرض زيد، وفرح، وأشر، وبطر.
والعلامة السادسة والسابعة: أن يكون على وزن: فعَل، بفتح العين. أو: فعِل. بكسر العين، اللذين وصفُهما على: فعيل؛ كذلَّ فلان فهو ذليل، وسمن فهو سمين.
قال ابن هشام:”ويدل على أن ذلَّ فعَل، بالفتح، قولهم: يذِلُّ، بالكسر. وقلت في نحو: ذلَّ، احترازًا من نحو: بخل؛ فإنه يتعدى بالجار، تقول: بخل بكذا.
وقال أيضًا:”فإن قلت: وكذلك تقول: ذل بالضرب، وسمن بكذا. قلت: المجروران مفعول لأجله، لا مفعول به “.
النوع الثاني:أن يكون من الأفعال، التي استغني عن مفعولها، لقصد العموم. وهذا النوع من الأفعال هو الذي يعبر عنه علماء النحو بـ( أنه نُزِّل منزلة الفعل اللازم )كالفعل:( أبصر، يبصر ) في قوله تعالى:
﴿ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ﴾(البقرة:17).
والفعل:( شاء ) في نحو قوله تعالى:
﴿ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ﴾(البقرة: 20(
فقوله تعالى:﴿ لَا يُبْصِرُونَ ﴾هو فعل متعد في الأصل؛ ولكن حذف مفعوله لقصد عموم نفي المبصرات، فتنزل الفعل منزلة اللازم، ولا يقدَّر له مفعول؛ كأنه قيل: لا إحساس بصر لهم.
وإلى هذا أشار الزمخشري بقوله:”والمفعول الساقط من﴿ لاَّ يُبْصِرُونَ ﴾من قبيل المتروك المُطرَح، الذي لا يلتفت إلى إخطاره بالبال، لا من قبيل المقدر المنوي، كأنَّ الفعل غير متعدٍّ أصلاً؛ نحو:﴿ يَعْمَهُونَ ﴾في قوله تعالى:﴿ وَيَذَرُهُمْ فِيْ طُغْيَـٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾(الأنعام: 110) “.
وكذلك فعل المشيئة في نحو قوله تعالى:
﴿ لو شَاءَ اللهُ، لذَهَبَ بسَمْعِهِمْ ﴾(البقرة: 20(
فهذا فعل مُنزَّل منزلة اللازم، ولا يجوز أن يُصَرَّح بمفعوله، إلا في الشيء المستغرب؛ كما في قول الخُرَيْمي:
فلو شئت أن أبكي دمًا لبكيته **غليك ولكن ساحة الصبر أوسع
فهنا لا يجوز حذف المفعول؛ لأنه لو حذف، وقيل
:
فلو شئت أن أبكي لبكيت دمًا
فإنه يحتمل تعليق المشيئة ببكاء الدمع، على مجرى العادة، وأن ما ذكره من بكاء الدم واقع بدله من غير قصد إليه؛ وكأنه قال
:
لو شئت أن أبكي دمعًا، لبكيت دمًا
فهذا المعنى محتمل، وإن كان تقييد البكاء في الجواب بالدم، يدل دلالة ظاهرة على أنه المراد، فإذا ذكر المفعول، زال هذا الاحتمال، وصار الكلام نصًّا في المعنى الأول
.
وأما مصطلح:( الفعل المتعدي )فيطلق على كل فعل، ذكر مفعوله في الجملة؛ سواء وقع عليه الفعل مباشرة، أو وقع عليه بوساطة أداة الجر، وهو أنواع ، سأكتفي بذكر ثلاثة منها:
النوع الأول:هو الذي يتعدى إلى واحد بنفسه تارة، وبالجار تارة أخرى؛ كشكر، ونصح، وقصد. تقول: شكرته وشكرت له، ونصحته ونصحت له، وقصدته وقصدت له، وقصدت إليه. قال تعالى:
﴿ وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾(النحل: 114)
﴿ وََاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ (البقرة: 172)
النوع الثاني:هو الذي يتعدى إلى مفعول واحد دائمًا بالجار؛ كقولك:
غضبت من زيد، ومررت به، أو عليه.
النوع الثالث:هو الذي يتعدى إلى مفعولين: الأول بنفسه، والثاني بأداة الجر؛ كقوله تعالى:
﴿ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ ﴾(البقرة: 33)
﴿ نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾(الأنعام: 143)
﴿ وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْراَهِيمَ ﴾(الحجر: 51)
وقد يحذف الحرف، ويبقى المفعول الثاني. وقد يحذف كليهما لتقدم ذكرهما؛ كما في قوله تعالى :
﴿ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ﴾(التحريم: 3(
2-
وواضح مما تقدم أنه لا يصح أن يطلق مصطلح:( المتعدي بالحرف )على الفعل، إلا إذا كان المتعدَّى إليه بهذا الحرف مفعولاًً به في الأصل؛ كقولك: سهوت عن الصلاة، وفي الصلاة. وقولك: رغبت في الشيء، وعن الشيء. وقولك : دخلت في البيت، وإلى البيت.. وهذا ظاهر في كل الأمثلة السابقة، والأمثلة، التي نقلها الدكتور الأنصاري عن العلماء في الفصل الأول من كتابه.
وإلى هذا نبَّه ابن هشام في قوله الذي تقدم ذكره:”فإن قلت: فإنك تقول: حدث لي أمر، وعرض لي سفر.. فعندي أن هذا الظرف صفة المرفوع المتأخر تقدم عليه، فصار حالاً؛ فتعلقه أولاً وآخرًا بمحذوف، وهو الكون المطلق. أو متعلق بالفعل المذكور على أنه مفعول لأجله، والكلام في المفعول به “.
وقوله أيضًا:”فإن قلت: وكذلك تقول: ذلَّ بالضرب، وسمِن بكذا. قلت: المجروران مفعول لأجله، لا مفعول به “.
والملاحظ أن الدكتور الأنصاري في حديثه عن الفعل المتعدي بالحرف أنه خلط بين المفعول به، والمفعول فيه، والمفعول لأجله، دون تمييز، فجعل كل فعل ذكر بعده أحد هذه المفعولات، أو غيرها مجرورًا بالحرف، متعديًا بحرف الجر. ولم يكتف بذلك؛ بل جعل الظرف ( مع ) بمنزلة حرف الجر. وقد كان الكوفيون يخلطون بين الظروف، وحروف الجر، فهي كلها عندهم حروف جر .
3-
وسأكتفي في بيان ذلك بالحديث عن فعلين ذكرهما الدكتور الأنصاري في الفصل الثاني من كتابه؛ وهما: الفعل:( دخل ). والفعل:( خرج ).
الفعل الأول:( دخل )
قال الدكتور الأنصاري:” الفعل ( دخل ) تنوعّت دلالاته، تبعًا لتعدد تعديته بحروف الجر، التي يكتسـب معهـا الفعل من معانيها الأصلية من الدلالات الموحية، التي يعين على إبرازها السياق والمقام. وقد جاء في القرآن الكريم متعديًا بنفسه؛ كما في قوله تعالى:
﴿ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ﴾(لكهــف: 35)
﴿ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا ﴾(النمل: 34(
وورد متعديا بـ( على ) و( في ) و( من ) و( الباء ) و( مع )، فدل على معان متباينة، طبقًا للحرف المتعدى به.
والدخول نقيض الخروج، ويستعمل ذلك في المكان والزمان، وحقيقته كما يقول الطاهر بن عاشور: نفوذ الجسم في جسم. أو مكان مَحوط كالبيت والمسجد..
وحين تعدى فعل الدخول بـ( على )، دلّ حرف الاستعلاء على ارتفـاع المكان وإشـرافه وعلوه، وأن الداخل، أو المأمور بالدخول فيه، مطالب بمزيد من التحمل والصبر على ما يلاقيه من الضرر والمشقة، وإن بقي لكل سياق مزيد خصوصية بما تشيعه تراكيبه من الدلالات والأغراض، التي لا تجدها في السياق الآخر...
وبتأمل مواطن تعدية الدخول بـ( على ) في القرآن الكريم، نجد له الدلالة، التي ذكرناها آنفا، في قوله تعالى:
﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً ﴾(آل عمران: 37)
فـ( على ) بدلالته على الاستعلاء، يشير إلى ارتفاع المكان، الذي فيه مريم- عليها السلام- وعلوه، وقد نصّ المفسرون على أن زكريا- عليه السلام- بنى لها محرابا في المسجد. أي: غرفة يصعد إليهـا بسلم.
أو أن ( على ) توحي بمشقة زكريا عليه السلام، وهو شيخ كبير في الوصول إليها، ومعاناته في كفالته لها، والقيام على رايتها حقّ الرعاية على أكمل وجه.
ولنفس الغرض جاءت ( على ) حين تعدى بها فعل الدخول في قصة يوسف عليه السلام في أربعة مواطن؛ منها قوله تعالى:
﴿ وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ﴾(يوسف: 58) ﴿ وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ ﴾(يوسف: 69)
فهي تدل على ارتفاع مكان يوسف وعلوه، وأنهم قد وجدوا من المشقة والصعاب ما وجدوه في سبيل الوصول إليه، والدخول عليه “.
ومن الأمثلة التي ذكرها على تعدي( دخل ) بـ( مع ) قوله تعالى:
﴿ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ ﴾(يوسف: 36)
قال :” فدلت كلمة المصاحبة ( مع ) على أن دخول هذين الفتيين السجن كان بمعية يوسف، مصاحبين له، ملحقين به. ولو رمت حذف ( مع ) من هذه الآية الكريمة، فلن تجد هذه المعاني، التي أومأت إليها كلمة المصاحبـة مـن أن دخـول الثلاثة السجن في آن واحد.
ونشرت الباء بدلالتها على الإلصاق والملابسة على فعل الدخول، حين تعدَّى بها معنى الجماع في قوله تعالى:
﴿ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾)النساء: 23)
يقال: دخل بعروسه: جامعهـا. ومعنى دخلتم بهن: جامعتوهن، وهو كناية عن الجماع.. وقد أعانت الباء على تحقيق الكنايـة في قوله:
﴿ دَخَلْتُم بِهِنَّ ﴾
بما لا يمكن أن تنهض به الحقيقة؛ كما قدرها الزمخشري بقوله: يعني: أدخلتموهن الستر.. مما يدل على قدرة هذه اللغة على الوفاء بآداب الإســلام، ومــا يوجبـه مـن الترفـع عن التصريح بما يستحسن الكناية عنه، إلى جانب ما جسدته الباء بما فيها من اللصوق والملابسة من الدلالة على شدة الارتباط، والقرب الروحي، والمخالطة النفسية بين الزوجين، بما يحقق الغاية من قوله تعالى:
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْها ﴾(الروم: 21)..“
هذا ما ذكره الدكتور الأنصاري عن تعدي الفعل ( دخل ).
والمعروف في اللغة والنحو: أن الفعل( دخل ) يستعمل لازمًاتارة . ومتعديًا تارة أخرى . ومتعديًا ولازمًاتارة ثالثة .
أما كونه لازمًافلأن مصدره على: فعول ، وهو غالب في الأفعال اللازمة؛ ولأن نظيره ونقيضه كذلك:( عبر ) و( خرج )، وكلاهما لازم.
ويتعين كونه لازمًا، إذا كان المدخول فيه مكانًا غير مختص؛ كقوله تعالى:
﴿ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم ﴾(الأعراف: 38)
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السَّّلْمِ كَآفَّةً ﴾ (البقرة: 208)
فإذا كان المدخول فيه مكانًا مختصًّا، فإما أن يكون ذلك المكان متسعًا جدًّا، بحيث يكون كالبلد العظيم. أو يكون ضيِّقًا جدًّا، بحيث يكون الدخول فيه ولوجًا وتقحمًا. أو يكون وسطًا بينهما.
فإذا كان الأول، وهو ( أن يكون المكان متسعًا جدًّا)، لم يكن من نصبه بدٌّ؛ كقول العرب: دخلت الكوفة والحجاز والعراق. ويقبُح أن يقال: دخلت في الكوفة، وفي الحجاز، وفي العراق، ومنه قوله تعالى:
﴿ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ ﴾(المائدة: 21)
﴿ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ (النحل: 32)
وإذا كان الثاني، وهو( أن يكون المكان ضيِّقًا جدًّا)، لم يكن من جره بدٌّ؛ كقولهم:( دخلت في البئر ).
وإذا كان الثالث، وهو ( أن يكون المكان وسطًا بينهما)، جاز فيه النصب، والجر؛ كقولهم: دخلت المسجد، وفي المسجد. ونصبه أبلغ من جره.
((
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، الذي رواه عنه أبو سعيد الخدري:” لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّتَبِعْتُمُوهُمْ..“.
هذا في صحيح البخاري. وفي صحيح مسلم:
لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّلَاتَّبَعْتُمُوهُمْ..“.
وفي سنن ابن ماجة:
لَتَتَّبِعُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بَاعًا بِبَاعٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ وَشِبْرًا بِشِبْرٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمْ فِيهِ.. )).
فجاء ( دخل ) متعديًا إلى ( الجحر ) تارة بنفسه، وتارة أخرى بـ( في )؛ لأنه من الأماكن المختصَّة، التي تكون وسطًا بين المتسعة جدًّا، والضيقة جدًّا. وقد وهم بعضهم حين ظن أن الجحر من الأماكن الضيقة، وهو ليس منها؛ لأن الدخول فيه لا يكون ولوجًا وتقحُّمًا؛ كالدخول في البئر.
أما انتصابه فعلى المفعول به، لا على نزع الخافض؛ لأن الأصل في الفعل ( دخل ) المتعدي إلى المكان المختص أن يتعدى بنفسه، ومنه قوله تعالى :
﴿ يَا أيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ ﴾(النمل: 18)
وأما ما ذهب إليه الدكتور الأنصاري من القول بأن ( دخل ) يتعدي بالحرف ( على )، وأنه يدل على ارتفاع المكان، وعلوه، فليس كذلك؛ لأن ( دخل ) لا يتعدَّى بـ( على ) أصلاً.
وقد يكون ما ذكره فضيلته من تعليل مقبولاً، لو أن ( دخل ) من الأفعال، التي تتعدى إلى مفعولها بحرفين، أو أكثر. أو كان من الأفعال، التي تتعدى إلى مفعولين أحدهما بأنفسها، والثاني بوساطة حرف الجر. فحينذ فقط يمكن أن نختار من هذه الأحرف أنسبها للسياق، ونعدِّي الفعل به؛ كما كان الشأن في غيره من الأفعال، التي تقدم ذكرها، من نحو قولهم: مررت به، ومررت عليه.
ولو افترضنا جدلاً أن ( دخل ) يتعدى بـ( على ) ، وأنه يدل على علو المكان وارتفاعه، فماذا يمكن أن نقول، إذا كان المدخول عليه في كهف تحت الأرض، وطلب منا الدخول عليه ؟ أنقول: دخلت فيه، أو: دخلت معه، أو دخلت به، أو دخلت عليه...؟ من البدهي أننا سنقول: دخلت عليه. فهل يشير( على ) هنا مع فعل الدخول إلى ارتفاع المكان، وعلوه ؟
ولهذا أقول: ينبغي أن نفرق بين قولنا: أشرفت على القوم، ومررت على القوم، وبين قولنا: دخلت على القوم، وألا نخلط بينها. فالقومفي الأول والثاني مفعول في المعنى، تعدى إليه الفعل بوساطة ( على )، خلافًا للقومفي القول الثالث؛ فإنه اسم مجرور، والمفعول به محذوف تقديره: دخلت المجلس على القوم ، ومثله قوله تعالى:
﴿ وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ ﴾( يوسف: 58)
﴿ وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ ﴾(يوسف: 69)
أي: دخلوا القصر عليه. وليس هذا؛ لأن يوسف عليه السلام في مكان عال شريف. أو لأن الداخل عليه يلقى من المشقة ما يلقاه؛ لأنك تقول: دخلت على المجرم في سجنه.. ودخلت على أخي في مكتبه.. ودخلت على والدي في حجرته.. ونحو ذلك مما ليس فيه علو، أو مشقة.
وأما قوله تعالى:
﴿ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ ﴾( يوسف: 36)
فالمفعول به هنا هو ( السجن ). و( معه ) حال من الفاعل. والأصل: ودخل السجن معه فتيان. أي: مصاحبين له. وهذا ما أشار إليه الزمخشري بقوله:”مع: يدل على معنى الصحبة واستحداثها. تقول: خرجت مع الأمير. تريد: مصاحبًا له. فيجب أن يكون دخولهما السجن مصاحبين له “.
فتعلق( مع ) هنا بالفعل هو من تعلق المفعول فيه، لا من تعلق المفعول به؛ ولهذا يخطىء من يقول: إن ( دخل ) يتعدَّى بـ( مع )؛ كما يخطىء من يقول: إنه يتعدَّى بـ( على ).
وأما قوله تعالى:
﴿ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾(النساء: 23)
فالمفعول في الأصل محذوف تقديره: فإن لم تكونوا دخلتم الستر بهن. ولكن حذف المفعول، وعدِّيَ بالباء؛ لأنه كنِّيَّ بالدخول عن الجماع. وهذا ما أشار إليه أبو حيان بقوله:”الدخول هنا كناية عن الجماع؛ لقولهم: بنى عليها. وضرب عليها الحجاب. والباء للتعدية، والمعنى: اللائي أدخلتموهن الستر.
قاله ابن عباس، وطاوس، وابن دينار “.
فقوله تعالى:﴿ دَخَلْتُم بِهِنَّ ﴾، عدِّي الفعل فيه بالباء؛ لأنه كُنِّيَ به عن الجماع، لا لأن الفعل ( دخل ) يتعدى بالباء، وهذا واضح.
ولو كان الضمير المجرور بـ( على )، و( الباء )، و( مع ) يعود على مفعول ( دخل ) الظاهر ، أو المضمر في الآيات السابقة، لجاز لنا أن نقول: إنه تعدى إلى مفعولين: الأول بنفسه، والثاني بحرف الجر. وهذا بعيد جدًّا.
أما قوله تعالى:
﴿ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي *وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾(الفجر: 29- 30 )
فقال فيه أبو حيان:”تعدى( فادخلي ) أولاً بـ( في ). وثانيًا بغير( في )؛ وذلك أنه إذا كان المدخول فيه غير ظرف حقيقي، تعدت إليه بـ( في ): دخلت في الأمر، ودخلت في غمار الناس، ومنه:﴿ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ﴾. وإذا كان المدخول فيه ظرفًا حقيقيًّا، تعدت إليه في الغالب بغير وساطة: في
الفعل الثاني:( خرج )
ذكر الدكتور الأنصاري أن ( خرج ) يتعدى بـ( من ) و( إلى ) و( على ) و( اللام ) و( مع ) و( في ).
وذكر من تعديته بـ( من ) قوله تعالى:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ ﴾(البقرة: 243)
ومن تعديته بـ( إلى ) ذكر قوله تعالى:
﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ﴾(الحجرات: 5)
ومن تعديته بـ( على ) ذكر قوله تعالى:
﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهٍِ ﴾(القصص: 79)
ومن تعديته بـ( اللام ) ذكر قوله تعالى:
﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ ﴾(الأعراف: 32(
ومن تعديته بـ( مع ) ذكر قوله تعالى:
﴿ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً ﴾(الحشر: 11)
ومن تعديته بـ( في ) ذكر قوله تعالى:
﴿ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ﴾ (التوبة: 47)
أما قوله بتعديته بـ( من ) و( إلى ) و( على ) فهو قول صحيح، لا غبار عليه.. وأما قوله بتعديته بـ( اللام ) في قوله تعالى:
﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ ﴾
ففيه خلط واضح بين الفعل:( خرج ) والفعل:( أخرج ). والأول لازم يتعدى بـ( إلى )، أو بـ( من ).. والثاني يتعدى بنفسه؛ إذ الهمزة فيه للتعدية، وحذف مفعوله؛ لأنه يعود على ( زينة الله ) و( الطيبات من الرزق
).
ولو كان عائدًا على الزينة فقط، لوجب أن يقال:( أخرجها لعباده ). أي: لأجلهم. ولو كان العباد مفعولاً، لقلنا إنه تعدى إليه باللام؛ ولكنه ليس بمفعول، ويسمِّي النحاة هذه الهمزة: همزة النقل، وهي التي تنقل غير المتعدي إلى المتعدي؛ كقولك: قام وأقمته، وذهب وأذهبته. وعلى هذا يكون قوله تعالى:( لِعِبَادِهِ ) متعلقًا بالفعل:( أخرج )؛ لأنه مفعول لأجله. والمعنى: أخرج لأجل عباده.
أي: أحرج الزينة والطيبات من الرزق لأجلهم.
وأما قوله بتعديته بـ( مع ) في قوله تعالى:
﴿ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً ﴾
فليس كذلك؛ لأن التقدير: لئن أخرجتم لنخرجن معكم، إلى حيث تخرجون. فالفعل متعد إلى مفعوله المحذوف للعلم به بـ( إلى ). و( معكم ) مثلها في قوله تعالى:
﴿ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ ﴾
ومثل ذك يقال في قوله تعالى
:
﴿ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ﴾
لأن التقدير: لو خرجوا إليهم فيكم. أو إلى حيث يريدون. و( في ) للظرفية المكانية، وتعلقها بالفعل من تعلق الظرف به.
وأخيرًا أذكِّر القارىء الكريم بما بدأ به الدكتور الأنصاري في مقدمة كتابه، فقال:” إن أهمية هذا الموضوع تعود إلى أمرين:
أولهما: لارتباطه بفقه الدلالة.. وثانيهما: لدقة مسلكه وغموضه وخفائه على بعض العلماء “.
وأود أن أشير هنا إلى أن الباعث على كتابة هذه المقالة النقدية ما دار من حوار على الرابط الآتي:
http://tafsir.org/vb/showthread.php?t=4991&highlight=%E5%D0%C7+%C7%E1%CA%E6%CC%ED%E5+%D5%CD%ED%CD
حول معنى قوله تعالى:
﴿ فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾(النحل: 29 )
وقوله تعالى:
﴿ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ ﴾ (يوسف: 67 )
وفي الختام أسأل الله تعالى أن يمنَّ على عباده بنعمة الفهم لمعاني كلامه، وبنعمة الإدراك للكشف عن أسرار بيانه، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
[font=Arial (Arabic)]
[/font]
 

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع