- 27 فبراير 2006
- 4,050
- 12
- 0
- الجنس
- ذكر
بقلم : مأمون اسعد التميمي
المصدر : جريدة الجزيرة
عام 1257 تحرك هولاكو بجيشه المغولي لمهاجمة مقر الخلافة ببغداد، كان الخليفة وقتذاك المستعصم، الذي يعتبر الثالث والثلاثين من الخلفاء العباسيين، ابنا للخليفة المستنصر من جارية حبشية، وكان يأمل في أن يعيد للخلافة سلطتها ومجدها، إذ أضحى للخلافة السيادة التامة منذ انهيار الخوارزمية، إلا أن الخليفة المستعصم كان يتصف بالغباء وضيق الأفق ويستعين بمستشارين ووزراء لا يمتلكون أي قدر من الكفاءة، وكان أهمهم ابن العلقمي وهو من الضالين المضللين الذين اعتقدوا أن القضاء على الخلافة هو نوع من أنواع الجهاد وهو انتصار طائفي ومذهبي لعقيدته، وبالرغم مما أحاط به المستعصم من مظاهر الأبهة والعظمة، كان رجلاً ضعيفاً، كل اهتمامه في اشباع متعته، أما أمور الحكم فتركها لمن وضع الشر في عينيه، وهو كما ذكرنا مؤيد الدين بن العلقمي، الذي حاول أن يتصدى له كاتب الخليفة ايبك وولي عهد الخليفة ولكن دون جدوى لأن الخليفة كان أذناً صاغية لابن العلقمي.
اشتهرت بغداد بمناعة استحكاماتها، كما أنه كان بوسع الخليفة أن يحشد جيشاً ضخماً إذ إن فرسانه وحدهم كانوا يبلغون مائة وعشرين الف فارس، ومن المعروف في كل الجيوش في ذلك الوقت أن عدد الفرسان يكون 10% من عدد الجيش أي يعني أن الخليفة كان باستطاعته أن يحشد أكثر من مليون مقاتل، وإذا عرفنا أن بغداد في ذلك الوقت كانت أكثر مدن العالم تطوراً وعلماً وثقافة وجامعات ومدارس وعلماء وفيها أكبر مخزون للعالم من الكتب العلمية والأدبية والثقافية والدينية والفلسفية ناهيك أن بغداد في ذلك الوقت كانت من أغنى دول العالم على الاطلاق.. كيف لا وهي حاضنة الخلافة لأكثر من ستمائة سنة، ولكن الترهل الذي وصلت فيه الخلافة مواصيلها وانحطاطها وهي لا تكترث لما يدور حولها من غزوات صليبية ضد فلسطين وبلاد الشام واحتلال القدس، كله كان مؤشر أن الخلافة أصبحت في أيدي أناس غير مؤهلين لحملها، ومن العجيب أن الخليفة المستعصم كان لا يثق في أتباعه المخلصين بل يسمع نصائح وزيره الذي يتآمر عليه والذي تشير كل الأحداث التاريخية أنه اتفق مع المغول عليه وكانت وظيفته من المغول تسهيل دخولهم إلى بغداد ومنع العوائق التي تحول دون ذلك وتشكيك الخليفة بكل من حوله من المخلصين وكانت أهم النصائح الكارثية التي أشار ابن العلقمي على الخليفة بها وهي تخفيض عدد الجيش واقناع الخليفة بإعطاء المغول الاتاوة، حتى يبتعدوا عن مهاجمته حيث أن المغول كانوا بحاجة ماسة لهذا المال لتجهيز انفسهم بشكل يمكنهم من دخول بغداد، إلا أن الخليفة فوجئ أن المغول بدلاً من أن يردوا عليه بالاحترام مقابل الاتاوات المالية التي اخذوها منه، بل رد عليه هولاكو بأن طلب حقوق السيادة على الخلافة ذاتها، فلم يلق اقتراح هولاكو الا الرفض، وتحدث هولاكو إلى رجال الحملة في شيء من القلق والاضطراب، إذ لم يجمع منجموه على أن النصر سوف يكون حليف الحملة، وكان يخشى أن ينقلب عليه من والاه من المسلمين المذهبيين، وتدخل أمراء دمشق ومصر غير أن ما اتخذه من تدابير لدرء خيانته كانت قوية، فما من أحد نهض لنجدة بغداد مثلما لم تنهض بغداد في عهد هذا الخليفة وابيه لنجدة احد، وفي تلك الاثناء ازداد جيشه قوة بوصول كتيبة من القبيلة الذهبية وبقدوم الجيش الذي ظل بيجو يحتفظ به على اطراف الاناضول في السنوات العشرة الاخيرة فضلاً عن كتيبة من فرسان الكرج الذين تلهفوا على مهاجمة حاضرة الإسلام.
وفي نهاية سنة 1257 تحرك الجيش المغولي من قاعدته في همدان وعبر بيجو بجيشه نهر دجلة عند الموصل، وسار ازاء الشاطئ الغربي للنهر، اما كتبغا والجناح الايسر للجيش فدخل سهل العراق الواقع شرقي العاصمة مباشرة، بينما زحف هولاكو بقلب الجيش مخترقاً كرمان شاة، ولم يكد الجيش الرئيس للخليفة ينهض بقيادة ايبك ليلتقي بهولاكو حتى سمع باقتراب جيش بيجو القادم من جهة الشمال الغربي، فعبر ايبك نهر دجلة من جدبد، وفي 11 يناير سنة 1258 باغت المغول قرب الانبار على مسافة نحو ثلاثين ميلا من بغداد فتظاهر بيجو بالارتداد، وبذا جر العرب إلى ارض منخفضة حافلة بالمستنقعات، وذلك لان المعلومات التي لديه ان قادة جيش الخليفة غير مؤهلين ودخلوا المعركة دون تخطيط، وارسل بيجو المهندسين ليقطعوا ما يقع خلفهم على نهر الفرات من السدود، وتجدد القتال في اليوم التالي، وارتد جيش ايبك إلى الحقول المغمورة بالمياه وهرب ايبك وحرسه بطريق النهر إلى بغداد تاركين خلفهم الجيش بدون قيادة، مما تسبب في هلاكهم في ساحة القتال لأنهم اخذوا يقاتلون على غير هدى ودون ايعاز او اوامر او مخطط يحركهم حسب ما تقتضيه ضرورة المعركة، اما بقية من تبقى منهم على قيد الحياة لاذوا بالفرار إلى البادية وتفرقوا في كل صوب.
المغول ينهبون
بغداد سنة 1258...
في 18 يناير سنة 1258 ظهر هولاكو أمام الأسوار الشرقية لمدينة بغداد بعد أن فقدت بغداد دفاعاتها الأساسية وفي 22 يناير سنة 1258 تعرضت المدينة لهجوم من كل الجهات بعد إقامة جسور من القوارب على نهر دجلة، بأعلى المدينة وأسفلها. والمعروف أن بغداد تقع على ضفتي نهر دجلة، على ان المدينة الغربية التي شملت قصر الخلفاء الأوائل أضحت أقل أهمية من المدينة الشرقية، التي تركزت فيها مباني الحكومة، وركز المغول أشد هجماتهم على الأسوار الشرقية، وأخذ المستعصم يفقد الأمل. وفي نهاية شهر يناير سنة 1258 اقترح عليه وزيره الذي كان يتآمر عليه مع المغول وهو لا يدري وطلب أن يرسل معه البطريارك النسطوري مؤملاً الخليفة في أن يتوسط البطريارك عند طقز خاتون لمحاولة التفاوض مع هولاكو غير انه تقرر إعادة الرسولين دون أن يحظيا بلقاء هولاكو كما زعم الاثنان. هذا ما اورده المؤرخ ستيفن ريتسمن في كتابه تاريخ الحروب الصليبية الذي أفرد فيه باباً كبيراً في الجزء الثالث عن معارك المغول، إلا أن المؤرخين الآخرين يؤكدون أن الاثنين وصلا إلى هولكو وكانا على اتصال دائم به وقد وضعوا معه خطة تقضي بجلب الخليفة وحاشيته وقادة جيشه مستسلمين بدعوى أن هذا الشرط أن نفذ سيعيد هولاكو الخليفة إلى حكمه، وقصة الاستسلام موجودة عند كل المؤرخين ولكن باختلاف بعض التفاصيل.
وأخذ السور الشرقي لبغداد يتداعى بعد أن تعرض للقذف الشديد في الأسبوع الأول من شهر فبراير سنة 1258 وفي 10 فبراير بينما كانت العساكر المغولية تتدفق إلى داخل المدينة ظهر الخليفة وبكل حمق وجبن وسلم نفسه لهولاكو بناء على نصيحة ابن العلقمي الذي تعهد له بان هولاكو وعده أن سلم الخليفة نفسه إليه أي إلى هولاكو وأوقف القتال وزوج ابنة الخليفة إلى ابنه فإنه سوف بعيد له الخلافة وملكه، على شرط أن يكون هذا التسليم كاملاً لكافة الجيش والوزراء وقادة الجيش وكبار الموظفين في الدولة. وبعد أن وصلوا إلى هولاكو أمر هولاكو بالاجهاز عليهم كلهم ولم يبق على قيد الحياة منهم إلا الخليفة لأن هولاكو طلب منه أن يدله على أسرار قصره وأن يسلمه مجوهراته وأملاكه وأملاك الدولة ومخابئها بالكامل، وبعد أن نفذ الخليفة ما طلب منه أمر هولاكو الفرسان أن يضعوا الخليفة في كيس ويدوسوه بالأحصنة لأنه وعد ابن العلقمي أن لا يقتله بالسيف.
وفي تلك الأثناء ظلت المذابح مستمرة في جميع انحاء بغداد، وتعرض للقتل على السواء أولئك الذين بادروا إلى التسليم، قبل الذين مضوا إلى القتال، وهلك النساء والأطفال مع رجالهم، وعثر أحد المغول في شارع جانبي على أربعين طفلاً حديثي الولادة وقد ماتت أمهاتهم، فأجهز عليهم رحمة بهم، لعلمه انه ليس بوسعهم البقاء على قيد الحياة طالما لم يكن ثمة من يرضعهم، أما عساكر الكرج الذين كانوا أول من اقتحم الأسوار فاشتهروا بشدتهم وقسوتهم في التدمير، فهلك أكثر من ثلثي أهل بغداد وخصوصاً الذين كانوا يسكنون حول دار الخلافة. ويقول بعض المؤرخين انه قتل في بغداد أكثر من مليوني إنسان، وهذا رقم طبيعي إذا عرفنا أن العراق كان عدد سكانها في ذلك الوقت يتجاوز العشرين الف الف أي عشرين مليوناً، إلا أن ستيفن ريتسمن يشير أن عدد الذين قتلوا في بغداد تجاوز الثمانين الف - وأنا لا أرجح هذا الرقم، لأن عدد الفرسان الذين لم يحاربوا كان عددهم لوحدهم مائة وعشرين الفاً - ولم يبق على قيد الحياة إلا فئة قليلة واتاها الحظ فلم يكتشف المغول الحواصن التي اختبؤوا فيها، فضلاً عن عدد من الغلمان والفتيات الفاتنات، الذين اضحوا أرقاء، وكذا الجالية المسيحية التي لجأت إلى الكنائس فلم يتعرض لها احد بسوء وفقاً لأوامر طقز خاتون، وكان هولاكو قد أمر بحرق مكتبات بغداد أو قذفها في نهر دجلة فحرق من حرق منها وألقى من ألقى منها في نهر دجلة عدا عن الذين كان هولاكو يأمر بقتلهم وإلقاء جثثهم في نهر دجلة حتى قيل أن النهر كان مرة يبدو أسود بلون الحبر ومرة أحمر بلون الدم، وبلغت رائحة الجثث المتعفنة بالمدينة من النتن، في نهاية مارس سنة 1258 ما دعا هولاكو إلى سحب قواته حتى لا تتعرض للوباء، وحزن كثير منهم لمغادرة المدينة لاعتقادهم أنه ما زال بها من التحف القيمة ما يصلح العثور عليه، غير أنه صار بحوزة هولاكو كل ما كدسه الخلفاء العباسيون من ثروات وكنوز طوال خمسة قرون.
وبعد أن أرسل هولاكو شطراً كبيراً من الغنائم إلى أخيه منكو انسحب راجعاً إلى همدان في تمهل، ومنها توجه إلى اذربيجان، حيث شيد قلعة منيعة في شها وضع فيها الذهب والمعادن النفيسة والجواهر، وجعل على بغداد والياً هو الوزير الخائن الذي اتفق مع المغول على تدمير بغداد لاحقاد مذهبية وشعوبية وهو مؤيد الدين ابن العلقمي، الذي خضع لإشراف دقيق من قبل اسياده المغول، ولا بد أن ابن العلقمي كان يتباهى أمام المغول وأمام الناس بأنه حرر بغداد من الخلافة الإسلامية، ومن هنا يتضح لنا السبب في نشر مذهب ابن العلقمي في العراق علماً أن العراق كانت طوال فترة الخلافة على مذهب الخلافة إلا ما ندر وذلك شيء طبيعي لأنها كانت حاضنة الخلافة الاسلامية التي لا يؤمن بها الشعوبيون والمذهبيون والطائفيون، اما البطريارك النسطوري، ماكيكا، فغمره هولاكو بالعطايا والاحباس، وجعل له احد قصور الخليفة مقرا وكنيسة وهذا يؤكد الاتفاق المسبق بينه وبين هولاكو وابن العلقمي.
المراجع
Bretschnieder, op. cit. pp. 120- 121
D"Ohsson, op. cit, 111, p. 257
Levy, A Baghdad Chronicle, pp. 259-260
تاريخ الحروب الصليبية - ستيفن رينسمان
المصدر : جريدة الجزيرة
عام 1257 تحرك هولاكو بجيشه المغولي لمهاجمة مقر الخلافة ببغداد، كان الخليفة وقتذاك المستعصم، الذي يعتبر الثالث والثلاثين من الخلفاء العباسيين، ابنا للخليفة المستنصر من جارية حبشية، وكان يأمل في أن يعيد للخلافة سلطتها ومجدها، إذ أضحى للخلافة السيادة التامة منذ انهيار الخوارزمية، إلا أن الخليفة المستعصم كان يتصف بالغباء وضيق الأفق ويستعين بمستشارين ووزراء لا يمتلكون أي قدر من الكفاءة، وكان أهمهم ابن العلقمي وهو من الضالين المضللين الذين اعتقدوا أن القضاء على الخلافة هو نوع من أنواع الجهاد وهو انتصار طائفي ومذهبي لعقيدته، وبالرغم مما أحاط به المستعصم من مظاهر الأبهة والعظمة، كان رجلاً ضعيفاً، كل اهتمامه في اشباع متعته، أما أمور الحكم فتركها لمن وضع الشر في عينيه، وهو كما ذكرنا مؤيد الدين بن العلقمي، الذي حاول أن يتصدى له كاتب الخليفة ايبك وولي عهد الخليفة ولكن دون جدوى لأن الخليفة كان أذناً صاغية لابن العلقمي.
اشتهرت بغداد بمناعة استحكاماتها، كما أنه كان بوسع الخليفة أن يحشد جيشاً ضخماً إذ إن فرسانه وحدهم كانوا يبلغون مائة وعشرين الف فارس، ومن المعروف في كل الجيوش في ذلك الوقت أن عدد الفرسان يكون 10% من عدد الجيش أي يعني أن الخليفة كان باستطاعته أن يحشد أكثر من مليون مقاتل، وإذا عرفنا أن بغداد في ذلك الوقت كانت أكثر مدن العالم تطوراً وعلماً وثقافة وجامعات ومدارس وعلماء وفيها أكبر مخزون للعالم من الكتب العلمية والأدبية والثقافية والدينية والفلسفية ناهيك أن بغداد في ذلك الوقت كانت من أغنى دول العالم على الاطلاق.. كيف لا وهي حاضنة الخلافة لأكثر من ستمائة سنة، ولكن الترهل الذي وصلت فيه الخلافة مواصيلها وانحطاطها وهي لا تكترث لما يدور حولها من غزوات صليبية ضد فلسطين وبلاد الشام واحتلال القدس، كله كان مؤشر أن الخلافة أصبحت في أيدي أناس غير مؤهلين لحملها، ومن العجيب أن الخليفة المستعصم كان لا يثق في أتباعه المخلصين بل يسمع نصائح وزيره الذي يتآمر عليه والذي تشير كل الأحداث التاريخية أنه اتفق مع المغول عليه وكانت وظيفته من المغول تسهيل دخولهم إلى بغداد ومنع العوائق التي تحول دون ذلك وتشكيك الخليفة بكل من حوله من المخلصين وكانت أهم النصائح الكارثية التي أشار ابن العلقمي على الخليفة بها وهي تخفيض عدد الجيش واقناع الخليفة بإعطاء المغول الاتاوة، حتى يبتعدوا عن مهاجمته حيث أن المغول كانوا بحاجة ماسة لهذا المال لتجهيز انفسهم بشكل يمكنهم من دخول بغداد، إلا أن الخليفة فوجئ أن المغول بدلاً من أن يردوا عليه بالاحترام مقابل الاتاوات المالية التي اخذوها منه، بل رد عليه هولاكو بأن طلب حقوق السيادة على الخلافة ذاتها، فلم يلق اقتراح هولاكو الا الرفض، وتحدث هولاكو إلى رجال الحملة في شيء من القلق والاضطراب، إذ لم يجمع منجموه على أن النصر سوف يكون حليف الحملة، وكان يخشى أن ينقلب عليه من والاه من المسلمين المذهبيين، وتدخل أمراء دمشق ومصر غير أن ما اتخذه من تدابير لدرء خيانته كانت قوية، فما من أحد نهض لنجدة بغداد مثلما لم تنهض بغداد في عهد هذا الخليفة وابيه لنجدة احد، وفي تلك الاثناء ازداد جيشه قوة بوصول كتيبة من القبيلة الذهبية وبقدوم الجيش الذي ظل بيجو يحتفظ به على اطراف الاناضول في السنوات العشرة الاخيرة فضلاً عن كتيبة من فرسان الكرج الذين تلهفوا على مهاجمة حاضرة الإسلام.
وفي نهاية سنة 1257 تحرك الجيش المغولي من قاعدته في همدان وعبر بيجو بجيشه نهر دجلة عند الموصل، وسار ازاء الشاطئ الغربي للنهر، اما كتبغا والجناح الايسر للجيش فدخل سهل العراق الواقع شرقي العاصمة مباشرة، بينما زحف هولاكو بقلب الجيش مخترقاً كرمان شاة، ولم يكد الجيش الرئيس للخليفة ينهض بقيادة ايبك ليلتقي بهولاكو حتى سمع باقتراب جيش بيجو القادم من جهة الشمال الغربي، فعبر ايبك نهر دجلة من جدبد، وفي 11 يناير سنة 1258 باغت المغول قرب الانبار على مسافة نحو ثلاثين ميلا من بغداد فتظاهر بيجو بالارتداد، وبذا جر العرب إلى ارض منخفضة حافلة بالمستنقعات، وذلك لان المعلومات التي لديه ان قادة جيش الخليفة غير مؤهلين ودخلوا المعركة دون تخطيط، وارسل بيجو المهندسين ليقطعوا ما يقع خلفهم على نهر الفرات من السدود، وتجدد القتال في اليوم التالي، وارتد جيش ايبك إلى الحقول المغمورة بالمياه وهرب ايبك وحرسه بطريق النهر إلى بغداد تاركين خلفهم الجيش بدون قيادة، مما تسبب في هلاكهم في ساحة القتال لأنهم اخذوا يقاتلون على غير هدى ودون ايعاز او اوامر او مخطط يحركهم حسب ما تقتضيه ضرورة المعركة، اما بقية من تبقى منهم على قيد الحياة لاذوا بالفرار إلى البادية وتفرقوا في كل صوب.
المغول ينهبون
بغداد سنة 1258...
في 18 يناير سنة 1258 ظهر هولاكو أمام الأسوار الشرقية لمدينة بغداد بعد أن فقدت بغداد دفاعاتها الأساسية وفي 22 يناير سنة 1258 تعرضت المدينة لهجوم من كل الجهات بعد إقامة جسور من القوارب على نهر دجلة، بأعلى المدينة وأسفلها. والمعروف أن بغداد تقع على ضفتي نهر دجلة، على ان المدينة الغربية التي شملت قصر الخلفاء الأوائل أضحت أقل أهمية من المدينة الشرقية، التي تركزت فيها مباني الحكومة، وركز المغول أشد هجماتهم على الأسوار الشرقية، وأخذ المستعصم يفقد الأمل. وفي نهاية شهر يناير سنة 1258 اقترح عليه وزيره الذي كان يتآمر عليه مع المغول وهو لا يدري وطلب أن يرسل معه البطريارك النسطوري مؤملاً الخليفة في أن يتوسط البطريارك عند طقز خاتون لمحاولة التفاوض مع هولاكو غير انه تقرر إعادة الرسولين دون أن يحظيا بلقاء هولاكو كما زعم الاثنان. هذا ما اورده المؤرخ ستيفن ريتسمن في كتابه تاريخ الحروب الصليبية الذي أفرد فيه باباً كبيراً في الجزء الثالث عن معارك المغول، إلا أن المؤرخين الآخرين يؤكدون أن الاثنين وصلا إلى هولكو وكانا على اتصال دائم به وقد وضعوا معه خطة تقضي بجلب الخليفة وحاشيته وقادة جيشه مستسلمين بدعوى أن هذا الشرط أن نفذ سيعيد هولاكو الخليفة إلى حكمه، وقصة الاستسلام موجودة عند كل المؤرخين ولكن باختلاف بعض التفاصيل.
وأخذ السور الشرقي لبغداد يتداعى بعد أن تعرض للقذف الشديد في الأسبوع الأول من شهر فبراير سنة 1258 وفي 10 فبراير بينما كانت العساكر المغولية تتدفق إلى داخل المدينة ظهر الخليفة وبكل حمق وجبن وسلم نفسه لهولاكو بناء على نصيحة ابن العلقمي الذي تعهد له بان هولاكو وعده أن سلم الخليفة نفسه إليه أي إلى هولاكو وأوقف القتال وزوج ابنة الخليفة إلى ابنه فإنه سوف بعيد له الخلافة وملكه، على شرط أن يكون هذا التسليم كاملاً لكافة الجيش والوزراء وقادة الجيش وكبار الموظفين في الدولة. وبعد أن وصلوا إلى هولاكو أمر هولاكو بالاجهاز عليهم كلهم ولم يبق على قيد الحياة منهم إلا الخليفة لأن هولاكو طلب منه أن يدله على أسرار قصره وأن يسلمه مجوهراته وأملاكه وأملاك الدولة ومخابئها بالكامل، وبعد أن نفذ الخليفة ما طلب منه أمر هولاكو الفرسان أن يضعوا الخليفة في كيس ويدوسوه بالأحصنة لأنه وعد ابن العلقمي أن لا يقتله بالسيف.
وفي تلك الأثناء ظلت المذابح مستمرة في جميع انحاء بغداد، وتعرض للقتل على السواء أولئك الذين بادروا إلى التسليم، قبل الذين مضوا إلى القتال، وهلك النساء والأطفال مع رجالهم، وعثر أحد المغول في شارع جانبي على أربعين طفلاً حديثي الولادة وقد ماتت أمهاتهم، فأجهز عليهم رحمة بهم، لعلمه انه ليس بوسعهم البقاء على قيد الحياة طالما لم يكن ثمة من يرضعهم، أما عساكر الكرج الذين كانوا أول من اقتحم الأسوار فاشتهروا بشدتهم وقسوتهم في التدمير، فهلك أكثر من ثلثي أهل بغداد وخصوصاً الذين كانوا يسكنون حول دار الخلافة. ويقول بعض المؤرخين انه قتل في بغداد أكثر من مليوني إنسان، وهذا رقم طبيعي إذا عرفنا أن العراق كان عدد سكانها في ذلك الوقت يتجاوز العشرين الف الف أي عشرين مليوناً، إلا أن ستيفن ريتسمن يشير أن عدد الذين قتلوا في بغداد تجاوز الثمانين الف - وأنا لا أرجح هذا الرقم، لأن عدد الفرسان الذين لم يحاربوا كان عددهم لوحدهم مائة وعشرين الفاً - ولم يبق على قيد الحياة إلا فئة قليلة واتاها الحظ فلم يكتشف المغول الحواصن التي اختبؤوا فيها، فضلاً عن عدد من الغلمان والفتيات الفاتنات، الذين اضحوا أرقاء، وكذا الجالية المسيحية التي لجأت إلى الكنائس فلم يتعرض لها احد بسوء وفقاً لأوامر طقز خاتون، وكان هولاكو قد أمر بحرق مكتبات بغداد أو قذفها في نهر دجلة فحرق من حرق منها وألقى من ألقى منها في نهر دجلة عدا عن الذين كان هولاكو يأمر بقتلهم وإلقاء جثثهم في نهر دجلة حتى قيل أن النهر كان مرة يبدو أسود بلون الحبر ومرة أحمر بلون الدم، وبلغت رائحة الجثث المتعفنة بالمدينة من النتن، في نهاية مارس سنة 1258 ما دعا هولاكو إلى سحب قواته حتى لا تتعرض للوباء، وحزن كثير منهم لمغادرة المدينة لاعتقادهم أنه ما زال بها من التحف القيمة ما يصلح العثور عليه، غير أنه صار بحوزة هولاكو كل ما كدسه الخلفاء العباسيون من ثروات وكنوز طوال خمسة قرون.
وبعد أن أرسل هولاكو شطراً كبيراً من الغنائم إلى أخيه منكو انسحب راجعاً إلى همدان في تمهل، ومنها توجه إلى اذربيجان، حيث شيد قلعة منيعة في شها وضع فيها الذهب والمعادن النفيسة والجواهر، وجعل على بغداد والياً هو الوزير الخائن الذي اتفق مع المغول على تدمير بغداد لاحقاد مذهبية وشعوبية وهو مؤيد الدين ابن العلقمي، الذي خضع لإشراف دقيق من قبل اسياده المغول، ولا بد أن ابن العلقمي كان يتباهى أمام المغول وأمام الناس بأنه حرر بغداد من الخلافة الإسلامية، ومن هنا يتضح لنا السبب في نشر مذهب ابن العلقمي في العراق علماً أن العراق كانت طوال فترة الخلافة على مذهب الخلافة إلا ما ندر وذلك شيء طبيعي لأنها كانت حاضنة الخلافة الاسلامية التي لا يؤمن بها الشعوبيون والمذهبيون والطائفيون، اما البطريارك النسطوري، ماكيكا، فغمره هولاكو بالعطايا والاحباس، وجعل له احد قصور الخليفة مقرا وكنيسة وهذا يؤكد الاتفاق المسبق بينه وبين هولاكو وابن العلقمي.
المراجع
Bretschnieder, op. cit. pp. 120- 121
D"Ohsson, op. cit, 111, p. 257
Levy, A Baghdad Chronicle, pp. 259-260
تاريخ الحروب الصليبية - ستيفن رينسمان