إعلانات المنتدى


وقفة قرآنية " ضرب الله مثلا قرية "

الأعضاء الذين قرؤوا الموضوع ( 0 عضواً )

عمر محمود أبو أنس

عضو كالشعلة
3 ديسمبر 2020
318
145
43
الجنس
ذكر
القارئ المفضل
عبد الباسط عبد الصمد
علم البلد
قال تعالى :" وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ "
( النحل - 112)
ضرب المثل منهج في القرآن للتدليل على المعاني في صورة حسية ، توضح المراد وتبسّط المعنى ، يذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية ( هذا مثل أريد به أهل مكة فإنها كانت أمنة مطمئنة مستقرة يتخطف الناس من حولها ومن دخلها كان آمنا لا يخاف ، "يأتيها رزقها رغدا" أي هنيئا سهلا "من كل مكان فكفرت بأنعم الله" أي جحدت آلاء الله عليها وأعظمها بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إليهم ، ولهذا بدلهم الله بحاليهم الأولين خلافهما فقال "فأذاقها الله لباس الجوع والخوف" أي ألبسها وأذاقها الجوع بعد أن كان يجبى إليهم ثمرات كل شيء ويأتيها رزقها رغدا من كل مكان وذلك أنهم استعصوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوا إلا خلافه فدعا عليهم بسبع كسبع يوسف فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء لهم حتى أكلوا العظام المحرقة والجيف "

ومن الوقفات الجميلة في الآية تشبيه الجوع والخوف باللباس الذي أحاط بهم فهو لصيق بهم لا ينفك عنهم وهذا من بلاغة القرآن ، قال القرطبي ( لباس الجوع والخوف سماه لباسا لأنه يظهر عليهم من الهزال وشحوبة اللون وسوء الحال ما هو كاللباس )

واعلم أن المعاصي هي أساس كل بلاء فلا ينزل بلاء وعذاب إلا بسبب المعاصي والذنوب ، ( بما كانوا يصنعون ) أي من الكفر والمعاصي ، ﴿بِما كانُوا يَصْنَعُونَ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ: بِفِعْلِهِمْ بِالنَّبِيِّ ﷺ حِينَ كَذَّبُوهُ، وأخْرَجُوهُ مِن مَكَّةَ وهَمُّوا بِقَتْلِهِ.

وجاء التعبير بـ " يصنعون " وليس "يعملون"؛ لأن الصنع هو عمل وزيادة، والزيادة هي الإجادة في العمل، فهم من شدة كفرهم لم يعملوا الشرك عملا، بل صنعوا الشرك صناعة، فهم أصحاب حذاقة وخبرة في الشرك، يتفننون في ألوان الشرك تفننا، ويخترعون صورا للشرك لا تخطر على بال، وفي هذا وصف لسوء حالهم. ألا ساء ما كانوا يصنعون. ( التفسير البياني لسورة النحل )

وإن مما ترشد إليه الآية الكريمة أن الكفر بالنعمة وعدم شكر الله عليها سبب لزوالها :" فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ " ( ومعنى الكفر بأنعم الله : الكفر بالمنعِم ، لأنهم أشركوا غيره في عبادته فلم يشكروا المنعم الحَقّ – ابن عاشور )

و سنة الله بالبلاء والعذاب قائمة في كل من كذّب بالنبي وكفر نعم الله ، ( جعلهم مثَلاً وعظة لمن يأتي بمثل ما أتوا به من إنكار نعمة الله- ابن عاشور )

وأما كفر النعمة فيكون بأمرين كما قال ابن القيم : ( أحَدُهُما: بِتَرْكِ شُكْرِهِ وطاعَتِهِ. الثّانِي: بِأنْ لا يُؤَدُّوا حَقَّها مِن مُواساةِ الفُقَراءِ وإسْعافِ ذَوِي الحاجاتِ.)

وجاء التعبير عن النعم التي كفرت بها هذه القرية بجمع القلة ( أنعم ) ؛ للتنبيه بالأدنى على الأعلى، فإذا كان كفران النعم القليلة موجبا للعذاب، فكفران النعم الكثيرة أولى بإيجاب العذاب ( التفسير البياني لسورة النحل )

ودلّت الآية على أن الرخاء يتحقق بشرطين : الأمن والطمأنينة ، " كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً " ، يقول ابن عاشور : ( والأمن : السلامة من تسلّط العدو ، والاطمئنان : الدّعة وهدوء البال ، وقدم الأمن على الطمأنينة إذ لا تحصل الطمأنينة بدونه ، كما أن الخوف يسبّب الانزعاج والقلق)

ووصف طيب العيش في الآية يدل عليه : ﴿يَأْتِيها﴾؛ أيْ: عَلى سَبِيلِ التَّجَدُّدِ والِاسْتِمْرارِ؛ ﴿رِزْقُها رَغَدًا﴾؛ أيْ: واسِعًا طَيِّبًا؛ ﴿مِن كُلِّ مَكانٍ﴾؛ بَرًّا؛ وبَحْرًا؛ بِتَيْسِيرِ اللَّهِ (تَعالى) لَهم ذَلِكَ. ، فطالما شبعت البطن، وأمنتْ النفس استقرت بالإنسان الحياة ، والرسول صلى الله عليه وسلم يعطينا صورة مُثْلى للحياة الدنيا، فيقول: " مَنْ أصبح معافىً في بدنه، آمناً في سربه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ".

وفي الآية تحقيق لدعوة إبراهيم عليه السلام حين دعا ربّه أن يجعل مكة بلدا آمنا وان يرزق أهلها من كل الثمرات ، وتأمل كم بين إبراهيم عليه السلام ومحمد -صلى الله عليه وسلم – وفي هذا تأكيد بأن الله ينجز لأنبيائه وأوليائه ما وعد ولو بعد حين .

واستعمال فعل الإذاقة :" فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ " ( والإذاقة : حقيقتها إحساس اللسان بأحوال الطعوم . وهي مستعارة هنا وفي مواضع من القرآن إلى إحساس الألم والأذى إحساساً مَكيناً كتمكّن ذوق الطعام من فم ذائقه لا يجد له مدفعاً _ ابن عاشور )

وتأمل المقابلة في الحال بين ما كانوا عليه وما صاروا إليه ، ﴿لِباسَ الجُوعِ﴾؛ بَعْدَ رَغَدِ العَيْشِ؛ ﴿والخَوْفِ﴾؛ بَعْدَ الأمْنِ؛ والطُّمَأْنِينَةِ؛

ولا شك أن الحكمة بعموم النص لا بخصوص المناسبة ، فهو مَثَلٌ مَضْرُوبٌ بِأيِّ قَرْيَةٍ كانَتْ عَلى هَذِهِ الصِّفَةِ مِن سائِرِ القُرى. قال الزمخشري في تفسيره ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً أي جعل القرية التي هذه حالها مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة، فكفروا وتولوا، فأنزل الله بهم نقمته.)

وأخيرا .... فإن الهدف من ضرب هذا المثل أن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يوضح لنا أن الإنسان إذا أنعم الله عليه بشتى أنواع النعم فجحدها، ولم يشكره عليها، ولم يُؤدِّ حق الله فيها، واستعمل نعمة الله في معصيته فقد عرَّضها للزوال، وعرَّض نفسه لعاقبة وخيمة ونهاية سيئة، فقيَّد النعمة بشكرها وأداء حق الله فيها، لذلك قال الشاعر:

إذَا كُنْتَ في نعمةٍ فَارْعَهافَإِنَّ المَعَاصِي تُزيلُ النِّعَم
وحَافِظْ عليها بشُكْرِ الإلهِفَإنَّ الإلَه شَدِيدُ النِّقَم

منقول بتصرف
 

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع