- 22 يوليو 2008
- 16,039
- 146
- 63
- الجنس
- أنثى
- علم البلد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مآخذ على مواضع في الوقف عند بعض القراء
عُرف عن بعض مشاهير القراء المصريين أنهم "درسوا" الألحان الموسيقية على هذا الملحّن أو ذاك. وأن "النغم" أو "الطرب" أصبح مقصوداً لذاته بعد أن كان المقصود الأول من تحسين التجويد، هو تحقيق الخشوع، وإيصال المعاني الدلالية العميقة للآيات الكريمة إلى النفوس فتهلع، وإلى القلوب لتخشع، فتلين الجلود لذكر الله وما تستمع إليه من الحق.
وبدل أن يعنى كبار القراء بعلم جليل من علوم الأداء الصوتي وهو علم "الوقف والابتداء"، وجدنا مشاهيرهم يتهافتون على علوم الموسيقى فيدرسون مقامات الصبا والبياتي والرست التي لا نرى لها صدى في تراثنا العربي القديم إلا صدى مرتبطاً بسيرة القيان والمخنّثين ممن كانوا يغنّون في مجالس اللهو والخلاعة أيام بعض الماجنين من حكام الدولتين الأموية والعباسية على نحو ما نرى في كتب الأدب العربي القديم.
وعلم "الوقف والابتداء" علم عظيم الأهمية لكل من يقرأ القرآن الكريم تعبداً أو تعلماً أو تعليماً، ولذلك تنازع البحثَ فيه علماءُ التفسير والقراءات والنحاةُ والبلاغيون، وظهرت فيه مؤلفات كثيرة، وهذه المؤلفات منها ما هو مطبوع مثل:
1.إيضاح الوقف والابتداء لأبي بكر بن الأنباري: نال به الباحث محيي الدين رمضان درجة الماجستير من جامعة عين شمس.
2.القطع والائتناف لأبي جعفر النحاس، نال به الباحث أحمد خطاب درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة.
3.المكتفى في الوقف والابتداء لأبي عمرو الداني، نال به الباحث جايد زيدان مخلف درجة الماجستير من جامعة الأزهر.
4.منار الهدى في بيان الوقف والابتداء للأشموني، وهو مطبوع.
5.معالم الاهتداء إلى معرفة الوقف والابتداء للشيخ محمود خليل الحصري.
ومنها كتب مخطوطة لم يصل إلى علمنا أنها طبعت – على أهميتها – مثل كتاب علم الدين السخاوي (علم الاهتداء في الوقف والابتداء)، و(تجويد التلاوة وتحقيق القراءة) للداني وغيرهما.
أسباب الخطأ:
ولأخطاء القراء في الوقف والابتداء أسباب كثيرة يمكنناإجمالها في نقاط هي:
أ.الرغبة في الظهور بمظهر القارئ الطويل النَفَس (بفتح الفاء) فتجد القارئ حين يجود آية طويلة ينقطع نَفَسه فيضطر للوقوف في موضع لا يصح الوقوف عليه.
ب.أن كتب الوقف والابتداء وكتب القراءات عموماً لم تذكر لنا على سبيل الحصر مواضع الوقف في القرآن الكريم كله. ولم ينقل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته إلا النزر اليسير.
جـ.أن مواضع الوقف خاصة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بعلم النحو، لأن القراء الأوائل جميعاً كانوا من النحاة كأبي الأسود الدؤلي، وابن أبي إسحاق الحضرمي، وعيسى بن عمر، وأبي عمرو بن العلاء، والكسائي وغيرهم. وقد اجتهد هؤلاء في محاولة وضع قواعد عامة للوقف فقالوا مثلاً: "كل كلمة تعلقت بما بعدها –بحيث أصبح ما بعدها متمماً لمعناها- لا يوقف عليها "كالمضاف والمضاف إليه، والمنعوت دون نعته، والشرط دون جوابه، والمؤكد دون توكيده... إلخ. ومعلوم أن احتراف القراء في عصرنا الحاضر يعتمد على جمال الصوت وإتقان المقامات الموسيقية، ولا ينظر القارئون ولا من يختارونهم إلى علوم النحو ولا يولونها اهتماماً يُذكر.
د.أن بعض القراء يحتال للوقوف متوهماً أن في هذا الموضع الذي يقف عليه إبداعاً وإعجازاً تبعاً لهوى نفسه، بلا نظر إلى الحكم الإعرابي النحوي.
أمثلة شهيرة:
1.قرأ قارئ معروف بجمال صوته آيات من سورة البقرة أعجبت جمهوره فصاح الجمهور وناح، فكررها وأعادها، ونقلها عنه مقلدوه حتى صارت من "تراث القراءة المعاصرة"!! وهي قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) [البقرة: 183] ووصلها بما بعدها ووقف على قوله تعالى: (أياماً معدودات) [البقرة: من الآية 184]. وهذا وقف قبيح جدّاً؛ لأنه جعل الظرف الزماني (أياماً معدودات) متعلقاً بالفعل السابق له (تتقون) فيصبح المعنى أن الهدف من فرض الصوم هو اتقاء الله أياماً معدودات لا غير هي أيام رمضان.
فهذا مثال للوقف الشنيع الذي يخرج بكتاب الله وآياته عن الفهم الصحيح الواجب لها. ولو اكتفى القارئ بالوقوف على رأس الآية (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) لكفى وشفى، لكنها الرغبة الذميمة في إظهار طول النَفََس، وفتنة الخنوع بما يظهره الغوغاء من الإعجاب والتصايح والتواجد. وصدق الله تعالى حين وصف جهلاء مكة وعبادتهم الزائفة فقال: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) [الأنفال: 35].
2.وقرأ قارئ شهير قوله تعالى في سورة القصص: (فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقصًّ عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين) [القصص: 25]. فوقف القارئ الشهير عند قوله تعالى (تمشي) واستأنف القراءة متفنناً هكذا: (على استحياء قالت...).
والقارئ الشهير هنا لم يفرّق بين نوعين من الوقف: الوقف التام والوقف الكافي. فالوقف التام غالباً ما يكون في الفواصل ورؤوس الآي. كقوله تعالى: (وأولئك هم المفلحون) [البقرة: من الآية 5]، ثم يبتدئ فيقول: (إن الذين كفروا) [البقرة: من الآية 6]، وكذلك قوله تعالى: (وجعلوا أعزة أهلها أذلة) [النمل: من الآية 34]. فيقف القارئ عليها وهذا وقف تام، ثم يبدأ فيقول: (فيقول (وكذلك يفعلون) [النمل: من الآية 34] لأن هذه الجملة الأخيرة من كلام الله تعالى، أما كلام بلقيس فنهايته (أذلة).
فالوقف التام هو الذي يحسن القطع عنده والابتداء بما بعده، لأنه لا يتعلق شيء مما بعده به، أما الوقف الكافي فيحسن القطع عنده أيضاً والابتداء بما بعده، غير أن ما بعده متعلق به تعلقاً معنويّاً لا لفظيّاً، كما لو قرأ قارئ قوله تعالى: (حُرّمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفوراً رحيماً) [النساء: 23] ثم وقف على قوله تعالى: (حُرّمت عليكم أمهاتكم) ثم ابتدأ بما بعدها لأن ذلك كله معطوف بعضه على بعض.
وهناك أنواع قبيحة من الوقف قد يخرج القارئ بها عن دين الإسلام لو تعمد ذلك الوقف كما ذهب إلى ذلك أبو عمرو الداني في كتابه "المكتفى" كما لو وقف هكذا (قال رب إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون وأخي هارون) [القصص: 33-34]، أو لو وقف هكذا (إن الله لا يهدي...) [غافر: من الآية 28]. لكن إذا نقطع نَفَسه وجب عليه أن يرجع إلى ما قبله مرة أخرى ويصل الكلام بعضه ببعض.
وفي المثال السابق الذي وقف فيه القارئ على قوله تعالى: (على استحياء) هذا وقف كافٍ، ولكن الابتداء يجب أن يكون من قوله تعالى (قالت إن أبي يدعوك...) لكنه لو أعاد فقال (على استحياء قالت إن أبي يدعوك...) يكون قد جعل الجار والمجرور (على استحياء) متعلقاً بالقول، وتعلق الاستحياء إنما هو بالمشي لا بالقول. وقد ضعف الابتداء بهذه الطريقة الإمام النيسابوري والشيخ محمود خليل الحصري وغيرهما.
3.وقرأ قارئ شهير من سورة لقمان قوله تعالى: (وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) [لقمان: 13] فوقف على قوله تعالى: (لا تشرك) ثم ابتدأ هكذا (بالله إن الشرك لظلم عظيم) وقد استنكر هذا الوقف الإمام السيوطي رحمه الله في "الإتقان" فذهب إلى أن أكثر الأقسام [جمع قسم بفتح القاف والسين] في القرآن الكريم المحذوفة الفعل لا تكون إلا بالواو مثل قوله تعالى: (والفجر) [الفجر: 1] وقوله تعالى: (والضحى) [الضحى: 1] فإذا ورد الفعل الدال على القسم جاء القسم بالباء بدل الواو كما في قوله تعالى: (وأقسموا بالله) [النور: من الآية 53]
وقوله تعالى: (فلا أقسم بالشفق) [الانشقاق: 16] ومن ثم كان من الخطأ الوقوف على قوله تعالى: (يا بني لا تشرك) ثم البدء بما يوحي بالقسم (بالله إن الشرك لظلم عظيم). وكذلك من وقف على قول السيد المسيح عليه السلام (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي) [المائدة: من الآية 116] ثم بدأ هكذا (بحقٍّ إن كنت قلته فقد علمته).
نماذج للوقف المرفوض شرعاً:
على القارئ أن يتذوق تمام المعنى حين يتلو كتاب الله تعالى، فلا يقف إلا حين يجد المعنى قد تم. وتمام المعنى إنما يكون باستغناء الكلام بعضه عن بعض. وما لم يتحر القارئ ذلك؛ فقد يقع في إثم عظيم، كما لو قرأ مثلاً قوله تعالى من سورة الإسراء: (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً) [الإسراء: 105] فوقف بعد قوله تعالى: (وما أرسلناك) فيكون هذا الوقف نافياً لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم. كذلك لو وقف على كلمة المصلين من قوله تعالى: (فويل للمصلين) [الماعون: 4]
مع أنها رأس آية، إلا أن ما بعدها مكمل لمعناها، والأصل أن الصلاة صفة مدح، وإنما خرجت هنا عن المدح لما ورد من أوصاف بعدها في قوله تعالى: (الذين هم عن صلاتهم ساهون) [الماعون: 5]. وكذلك لو رغب قارئ في إظهار طول نَفَسه قوله تعالى: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين) [الأنفال: 38] فوقف هكذا (إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا) فإنه بذلك يكون قد ساوى في المغفرة بين من انتهى عن المعصية ومن عاد إلى ارتكابها وهذا يخرج بالنظم القرآني عن أصل معناه وإنما الواجب عليه أن يقف على كلمة (سلف)، ثم يبدأ تلاوته من قوله تعالى: (وإن يعودوا).
اختلاف الوقف باختلاف القراءات:
ومن الفتن الشنيعة التي أولع بها بعض القراء في عصرنا فتنة الجمع بين القراءات في تلاوة واحدة، مع أن العلماء قديماً وحديثاً أجمعوا على كراهة ذلك وذهب بعضهم إلى حرمته، وأجازوه في حالة التعليم فقط. وهذا الحكم معروف للقراء كافة، إلا أن بعضهم يقرأ جملة من الآيات على قراءة ثم يعود فيقرأها على قراءة ثانية. ولكننا نسمع بعضهم يكرر الآية الواحدة، وأحياناً يكرر الكلمة الواحدة، بعدة قراءات، ولا يدفعه إلا هذا الصنيع الممقوت إلا صياح الجهلة من الدهماء.
وهذه الفتنة – أعني فتنة جمع القراءات في التلاوة الواحدة – تؤدي إلى فتنة أخرى تتعلق بالوقف والابتداء. فمثلاً: الوقف في قوله تعالى: (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع والسجود). [البقرة: 125] إنما يكون على قوله تعالى: (وأمنا) يكون تامّاً على قراءة من قرأ (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) [البقرة: من الآية 125] بكسر الخاء على أنها فعل من الاتخاذ،
أما قراءة نافع وابن عامر (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) بفتح الخاء فلا يجوز فيها الوقوف على قوله تعالى: (وأمنا) لأن الاتخاذ بصيغة الفعل الماضي إخبار عن الناس، فالكلام متصل لفظاً ومعنى، لأن الفعل (واتخَذوا) حالة كونه ماضياً، هو معطوف على ما قبله
الكاتب - ( أ. د. مصطفى رجب )
مآخذ على مواضع في الوقف عند بعض القراء
عُرف عن بعض مشاهير القراء المصريين أنهم "درسوا" الألحان الموسيقية على هذا الملحّن أو ذاك. وأن "النغم" أو "الطرب" أصبح مقصوداً لذاته بعد أن كان المقصود الأول من تحسين التجويد، هو تحقيق الخشوع، وإيصال المعاني الدلالية العميقة للآيات الكريمة إلى النفوس فتهلع، وإلى القلوب لتخشع، فتلين الجلود لذكر الله وما تستمع إليه من الحق.
وبدل أن يعنى كبار القراء بعلم جليل من علوم الأداء الصوتي وهو علم "الوقف والابتداء"، وجدنا مشاهيرهم يتهافتون على علوم الموسيقى فيدرسون مقامات الصبا والبياتي والرست التي لا نرى لها صدى في تراثنا العربي القديم إلا صدى مرتبطاً بسيرة القيان والمخنّثين ممن كانوا يغنّون في مجالس اللهو والخلاعة أيام بعض الماجنين من حكام الدولتين الأموية والعباسية على نحو ما نرى في كتب الأدب العربي القديم.
وعلم "الوقف والابتداء" علم عظيم الأهمية لكل من يقرأ القرآن الكريم تعبداً أو تعلماً أو تعليماً، ولذلك تنازع البحثَ فيه علماءُ التفسير والقراءات والنحاةُ والبلاغيون، وظهرت فيه مؤلفات كثيرة، وهذه المؤلفات منها ما هو مطبوع مثل:
1.إيضاح الوقف والابتداء لأبي بكر بن الأنباري: نال به الباحث محيي الدين رمضان درجة الماجستير من جامعة عين شمس.
2.القطع والائتناف لأبي جعفر النحاس، نال به الباحث أحمد خطاب درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة.
3.المكتفى في الوقف والابتداء لأبي عمرو الداني، نال به الباحث جايد زيدان مخلف درجة الماجستير من جامعة الأزهر.
4.منار الهدى في بيان الوقف والابتداء للأشموني، وهو مطبوع.
5.معالم الاهتداء إلى معرفة الوقف والابتداء للشيخ محمود خليل الحصري.
ومنها كتب مخطوطة لم يصل إلى علمنا أنها طبعت – على أهميتها – مثل كتاب علم الدين السخاوي (علم الاهتداء في الوقف والابتداء)، و(تجويد التلاوة وتحقيق القراءة) للداني وغيرهما.
أسباب الخطأ:
ولأخطاء القراء في الوقف والابتداء أسباب كثيرة يمكنناإجمالها في نقاط هي:
أ.الرغبة في الظهور بمظهر القارئ الطويل النَفَس (بفتح الفاء) فتجد القارئ حين يجود آية طويلة ينقطع نَفَسه فيضطر للوقوف في موضع لا يصح الوقوف عليه.
ب.أن كتب الوقف والابتداء وكتب القراءات عموماً لم تذكر لنا على سبيل الحصر مواضع الوقف في القرآن الكريم كله. ولم ينقل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته إلا النزر اليسير.
جـ.أن مواضع الوقف خاصة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بعلم النحو، لأن القراء الأوائل جميعاً كانوا من النحاة كأبي الأسود الدؤلي، وابن أبي إسحاق الحضرمي، وعيسى بن عمر، وأبي عمرو بن العلاء، والكسائي وغيرهم. وقد اجتهد هؤلاء في محاولة وضع قواعد عامة للوقف فقالوا مثلاً: "كل كلمة تعلقت بما بعدها –بحيث أصبح ما بعدها متمماً لمعناها- لا يوقف عليها "كالمضاف والمضاف إليه، والمنعوت دون نعته، والشرط دون جوابه، والمؤكد دون توكيده... إلخ. ومعلوم أن احتراف القراء في عصرنا الحاضر يعتمد على جمال الصوت وإتقان المقامات الموسيقية، ولا ينظر القارئون ولا من يختارونهم إلى علوم النحو ولا يولونها اهتماماً يُذكر.
د.أن بعض القراء يحتال للوقوف متوهماً أن في هذا الموضع الذي يقف عليه إبداعاً وإعجازاً تبعاً لهوى نفسه، بلا نظر إلى الحكم الإعرابي النحوي.
أمثلة شهيرة:
1.قرأ قارئ معروف بجمال صوته آيات من سورة البقرة أعجبت جمهوره فصاح الجمهور وناح، فكررها وأعادها، ونقلها عنه مقلدوه حتى صارت من "تراث القراءة المعاصرة"!! وهي قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) [البقرة: 183] ووصلها بما بعدها ووقف على قوله تعالى: (أياماً معدودات) [البقرة: من الآية 184]. وهذا وقف قبيح جدّاً؛ لأنه جعل الظرف الزماني (أياماً معدودات) متعلقاً بالفعل السابق له (تتقون) فيصبح المعنى أن الهدف من فرض الصوم هو اتقاء الله أياماً معدودات لا غير هي أيام رمضان.
فهذا مثال للوقف الشنيع الذي يخرج بكتاب الله وآياته عن الفهم الصحيح الواجب لها. ولو اكتفى القارئ بالوقوف على رأس الآية (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) لكفى وشفى، لكنها الرغبة الذميمة في إظهار طول النَفََس، وفتنة الخنوع بما يظهره الغوغاء من الإعجاب والتصايح والتواجد. وصدق الله تعالى حين وصف جهلاء مكة وعبادتهم الزائفة فقال: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) [الأنفال: 35].
2.وقرأ قارئ شهير قوله تعالى في سورة القصص: (فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقصًّ عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين) [القصص: 25]. فوقف القارئ الشهير عند قوله تعالى (تمشي) واستأنف القراءة متفنناً هكذا: (على استحياء قالت...).
والقارئ الشهير هنا لم يفرّق بين نوعين من الوقف: الوقف التام والوقف الكافي. فالوقف التام غالباً ما يكون في الفواصل ورؤوس الآي. كقوله تعالى: (وأولئك هم المفلحون) [البقرة: من الآية 5]، ثم يبتدئ فيقول: (إن الذين كفروا) [البقرة: من الآية 6]، وكذلك قوله تعالى: (وجعلوا أعزة أهلها أذلة) [النمل: من الآية 34]. فيقف القارئ عليها وهذا وقف تام، ثم يبدأ فيقول: (فيقول (وكذلك يفعلون) [النمل: من الآية 34] لأن هذه الجملة الأخيرة من كلام الله تعالى، أما كلام بلقيس فنهايته (أذلة).
فالوقف التام هو الذي يحسن القطع عنده والابتداء بما بعده، لأنه لا يتعلق شيء مما بعده به، أما الوقف الكافي فيحسن القطع عنده أيضاً والابتداء بما بعده، غير أن ما بعده متعلق به تعلقاً معنويّاً لا لفظيّاً، كما لو قرأ قارئ قوله تعالى: (حُرّمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفوراً رحيماً) [النساء: 23] ثم وقف على قوله تعالى: (حُرّمت عليكم أمهاتكم) ثم ابتدأ بما بعدها لأن ذلك كله معطوف بعضه على بعض.
وهناك أنواع قبيحة من الوقف قد يخرج القارئ بها عن دين الإسلام لو تعمد ذلك الوقف كما ذهب إلى ذلك أبو عمرو الداني في كتابه "المكتفى" كما لو وقف هكذا (قال رب إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون وأخي هارون) [القصص: 33-34]، أو لو وقف هكذا (إن الله لا يهدي...) [غافر: من الآية 28]. لكن إذا نقطع نَفَسه وجب عليه أن يرجع إلى ما قبله مرة أخرى ويصل الكلام بعضه ببعض.
وفي المثال السابق الذي وقف فيه القارئ على قوله تعالى: (على استحياء) هذا وقف كافٍ، ولكن الابتداء يجب أن يكون من قوله تعالى (قالت إن أبي يدعوك...) لكنه لو أعاد فقال (على استحياء قالت إن أبي يدعوك...) يكون قد جعل الجار والمجرور (على استحياء) متعلقاً بالقول، وتعلق الاستحياء إنما هو بالمشي لا بالقول. وقد ضعف الابتداء بهذه الطريقة الإمام النيسابوري والشيخ محمود خليل الحصري وغيرهما.
3.وقرأ قارئ شهير من سورة لقمان قوله تعالى: (وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) [لقمان: 13] فوقف على قوله تعالى: (لا تشرك) ثم ابتدأ هكذا (بالله إن الشرك لظلم عظيم) وقد استنكر هذا الوقف الإمام السيوطي رحمه الله في "الإتقان" فذهب إلى أن أكثر الأقسام [جمع قسم بفتح القاف والسين] في القرآن الكريم المحذوفة الفعل لا تكون إلا بالواو مثل قوله تعالى: (والفجر) [الفجر: 1] وقوله تعالى: (والضحى) [الضحى: 1] فإذا ورد الفعل الدال على القسم جاء القسم بالباء بدل الواو كما في قوله تعالى: (وأقسموا بالله) [النور: من الآية 53]
وقوله تعالى: (فلا أقسم بالشفق) [الانشقاق: 16] ومن ثم كان من الخطأ الوقوف على قوله تعالى: (يا بني لا تشرك) ثم البدء بما يوحي بالقسم (بالله إن الشرك لظلم عظيم). وكذلك من وقف على قول السيد المسيح عليه السلام (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي) [المائدة: من الآية 116] ثم بدأ هكذا (بحقٍّ إن كنت قلته فقد علمته).
نماذج للوقف المرفوض شرعاً:
على القارئ أن يتذوق تمام المعنى حين يتلو كتاب الله تعالى، فلا يقف إلا حين يجد المعنى قد تم. وتمام المعنى إنما يكون باستغناء الكلام بعضه عن بعض. وما لم يتحر القارئ ذلك؛ فقد يقع في إثم عظيم، كما لو قرأ مثلاً قوله تعالى من سورة الإسراء: (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً) [الإسراء: 105] فوقف بعد قوله تعالى: (وما أرسلناك) فيكون هذا الوقف نافياً لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم. كذلك لو وقف على كلمة المصلين من قوله تعالى: (فويل للمصلين) [الماعون: 4]
مع أنها رأس آية، إلا أن ما بعدها مكمل لمعناها، والأصل أن الصلاة صفة مدح، وإنما خرجت هنا عن المدح لما ورد من أوصاف بعدها في قوله تعالى: (الذين هم عن صلاتهم ساهون) [الماعون: 5]. وكذلك لو رغب قارئ في إظهار طول نَفَسه قوله تعالى: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين) [الأنفال: 38] فوقف هكذا (إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا) فإنه بذلك يكون قد ساوى في المغفرة بين من انتهى عن المعصية ومن عاد إلى ارتكابها وهذا يخرج بالنظم القرآني عن أصل معناه وإنما الواجب عليه أن يقف على كلمة (سلف)، ثم يبدأ تلاوته من قوله تعالى: (وإن يعودوا).
اختلاف الوقف باختلاف القراءات:
ومن الفتن الشنيعة التي أولع بها بعض القراء في عصرنا فتنة الجمع بين القراءات في تلاوة واحدة، مع أن العلماء قديماً وحديثاً أجمعوا على كراهة ذلك وذهب بعضهم إلى حرمته، وأجازوه في حالة التعليم فقط. وهذا الحكم معروف للقراء كافة، إلا أن بعضهم يقرأ جملة من الآيات على قراءة ثم يعود فيقرأها على قراءة ثانية. ولكننا نسمع بعضهم يكرر الآية الواحدة، وأحياناً يكرر الكلمة الواحدة، بعدة قراءات، ولا يدفعه إلا هذا الصنيع الممقوت إلا صياح الجهلة من الدهماء.
وهذه الفتنة – أعني فتنة جمع القراءات في التلاوة الواحدة – تؤدي إلى فتنة أخرى تتعلق بالوقف والابتداء. فمثلاً: الوقف في قوله تعالى: (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع والسجود). [البقرة: 125] إنما يكون على قوله تعالى: (وأمنا) يكون تامّاً على قراءة من قرأ (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) [البقرة: من الآية 125] بكسر الخاء على أنها فعل من الاتخاذ،
أما قراءة نافع وابن عامر (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) بفتح الخاء فلا يجوز فيها الوقوف على قوله تعالى: (وأمنا) لأن الاتخاذ بصيغة الفعل الماضي إخبار عن الناس، فالكلام متصل لفظاً ومعنى، لأن الفعل (واتخَذوا) حالة كونه ماضياً، هو معطوف على ما قبله
الكاتب - ( أ. د. مصطفى رجب )