- 29 ديسمبر 2007
- 27
- 0
- 0
- الجنس
- ذكر
- القارئ المفضل
- محمد صدّيق المنشاوي
(بسم الل)
(بين الحماسة والغناء كاد الاعتداء علينا يكون فيه نوع من الأجر والثواب عند الناس انذاك وكان العام 1935 والمكان جامع المرادية والمناسبة خطبة الجمعة والسبب ذهاب الخطيب وقتها الى حج بيت الله الحرام واعتلائنا المنبر كوكيل للخطيب) هذا ما قاله الشيخ جلال الحنفي البغدادي في روايته وخروجه على المعتاد والمألوف لدى الناس فمن المعروف ان الخطباء في الجوامع حين يعتلون المنبر يخطبون على طريقة السلف (اي بالغناء على المنبر) على مقام الطاهر مثلاً ويضيف:
(في الجمعة الاولى قلدت الطريقة القديمة وهذه موجودة منذ مئتي الى ثلاثمئة سنة حتى ان مفتي بغداد رحمه الله قال آنذاك -لما عينوني خطيباً اعددت الخطابة نقمة لانني اجهل بأصول النغمة) ويواصل الشيخ البغدادي حكايته قائلاً.. المهم (غنية) على مقام الطاهر بالقول, (الحمد لله ثم الحمد لله.. ما توفيقي ولا اعتصامي الا بالله.. عليه توكلت واليه أنيب).
وحين حلت الجمعة الثانية الغيت الطريقة القديمة وبدأت أتكلم والكلام في الخطبة يحتاج الى حماسة وتشجيع.. وبدأت بحماسة ولكن الحضور استغربوا ما اقول وتجهزوا لقتلي وهم يقولون (بابا هذا بدا يلعب بالدين لعب) وطبعاً كان الاعتداء عليّ فيه اجر وثواب كما يعتقدون!
ولكن من حسن الحظ ومشيئة القدر في تلك الجمعة ان جاء الى جامع المرادية مساجين انتهت مدة محكوميتهم ليسلموا علي لأنني كنت ايضاً واعظاً في سجن باب المعظم (حالياً بناية الصحة) وشاهدوا الاجواء في المرادية فقالوا.. (الذي يتحرش بفلان نقتله ونعود للسجن) فخاف الناس وتراجعوا!!
وفي الجمعة الثالثة حل علينا بشير الصقال وهو من علماء الموصل فقدمته على المنبر وبدأ وخطب كما كنت افعل.. عندها انتبه الأهالي بان اهل الموصل (لايغنون في الخطبة) وبدأ الناس يتساءلون وقالوا: هذا ليس شغل صبيان.. لان هذا العالم الجليل (الصقال) لم يغنِ.. ومن يومها أخذت اخطب بلا غناء.
لو تجاوزنا عام 1935 تاريخ الحكاية الطريفة التي يرويها الشيخ الحنفي, فان تاريخ هذا المبنى الديني (جامع المرادية) يعود الى زمن ابعد من هذا بكثير.
يعدُّ جامع المرادية الذي يقع في مدخل شــــارع الرشــــيد من جهة الباب المعظم –مقابل وزارة الدفاع تقريباً- واحداً من اهم العمائر التراثية المماثلة له في بغداد وذلك لتفرده ببعض الخصائص الفنية, وبالذات في منارته, ويذكر الباحث التراثي, المنهدس جمال عبدالكريم, بان هذه التسمية لحقت بالجامع نسبة الى والي بغداد مراد باشا (1566-1574) وهذا يعني بأن المبنى يعود الى القرن السادس عشر الميلادي, وعلى رواية المهندس عبدالكريم, فأن الجامع قد تعرض الى بعض التخريب ولذلك جرت عليه عدة ترميمات في بداية القرن الماضي, من غير ان تمس تصميمه الاصلي.
تفاصيل معمارية
يتميز المرادية بمساحته الواسعة, وهو الامر الذي سمح للمعماري ان يتصرف بقدر واضح من الحرية في اعطاء مرافق الجامع ابعاداً جيدة وخاصة تلك التي تحتاج الى مساحات مناسبة كما هو الحال في بيت الصلاة الذي تبلغ مساحته 275 م2 او الصحن وكذلك القاعة والمكتبة والحديقة وعموم الممرات والمرافق الاخرى.
يضم المبنى مصلى صيفياً, ومصلى شتوياً, وقد روعيت جدران المصلى الشتوي فجعلت سميكة لكي تتحمل ثقل وضغط سبع قباب فوقها, واكبر هذه القباب قبة بلاط المحراب التي يبلغ قطرها 9.5 م , وهي ذات شكل نصف كروي مفلطح ومدبب, اما قاعدتها فتخلو من النوافذ.
فنياً يمكن ان نلاحظ عناية واضحة بالقبة حيث تمت تغطيتها بقراميد بأسلوب غير تقليدي, فهي تقدم نفسها على هيأة معينات متصلة, ولايستبعد السيد عبدالكريم ان تكون هذه التغطية الخارجية للقبة هي من التجديدات اللاحقة التي اضيفت على الاصل, اما بالنسبة لصورتها من الداخل, فهناك شريط يغلف رقبتها بالكامل, وهذا الشريط اعتمد على الخطوط, او الكتابة القرآنية تحديداً, حيث اعتمد آية الكرسي لاغراض التزيين.
المعلم الاجمل
ربما كانت مئذنة الجامع هي من اكبر المعالم مدعاة للتأمل, فهي تحتل الركن الشمالي الغربي من المصلى الصيفي وتتصل به من جهتين, وتنتج عن هذا الاتصال انصاف اعمدة نصف اسطوانية, وفي هذا الصدد يقدم لنا مؤلفو كتاب (العمارات العربية الاسلامية في العراق - جـ1) صورة تفصيلية عن المئذنة, من بينها ان قاعدتها مربعة بمساحة 12.25 م2 وبدنها اسطواني رشيق يبلغ قطره (2.5م) ويخترقه سلم حلزوني يبدأ من فوق سطح المصلى ويؤدي الى الحوض الذي يستند على 4 صفوف من المقرنصات, وتتميز الرقبة بالرشاقة كذلك وهي متوجه برأس بصلي مضلع ومدبب.
القراميد القاشانية ذات الزخارف النباتية والالوان المشرقة البراقة تكسو المئذنة كلها, وينوه الباحث عبدالكريم الى ان التمعن في القراميد يعطينا فكرة واضحة على ميلاد ظاهرة فنية غير مسبوقة في اسلوب التشكيلات الزخرفية, فالمعروف بان التفنن بطرائق رصف الطابوق كان هو السائد في مساجد بغداد لاعطاء تشكيلات هندسية فنية, في حين اصبح الفن هنا قائماً على القراميد القاشانية ذات الزخارف النباتية التي تهيأ الرسوم فوقها قبل ان تُرصف على المئذنة, وهذا أمر يحدث لأول مرة في مجال تزيين المساجد.
يستند الحوض على اربعة صفوف من المقرنصات بسيطة في تركيبها جميلة في مظهرها وحناياها مشغولة بقراميد قاشانية مزخرفة, ولايختلف وجه الحوض عن البدن كما لاتختلف الرقبة كذلك.
ويلاحظ بأن الجامع بني بالطابوق والجص بأستثناء المئذنة التي اعتمدت على الحجر, مثلما يلاحظ بأن اسلوب الزخرفة الذي قام على القرميد القاشاني بدلاً من أشكال الطابوق الهندسية قد استهوى المعماريين والفنانين كثيراً فراحوا ينقلونه الى مساجد بغداد الاخرى شيئاً فشيئاً حتى اصبح هذا الاسلوب هو السائد.
ويرى مؤلفو الكتاب الذي اشرنا اليه بأن مئذنة جامع المرادية هي اجمل مآذن بغداد من حيث رشاقتها وتقنية تشكيلاتها الزخرفية وجمال مقرنصاتها ووجود مقرنصات تسند قاعدة رأسها, كما يرون بأن مصلى الجامع هو إنموذج لعدد من مساجد القرن السادس الهجري ومساجد القرون اللاحقة.
منقول
(بين الحماسة والغناء كاد الاعتداء علينا يكون فيه نوع من الأجر والثواب عند الناس انذاك وكان العام 1935 والمكان جامع المرادية والمناسبة خطبة الجمعة والسبب ذهاب الخطيب وقتها الى حج بيت الله الحرام واعتلائنا المنبر كوكيل للخطيب) هذا ما قاله الشيخ جلال الحنفي البغدادي في روايته وخروجه على المعتاد والمألوف لدى الناس فمن المعروف ان الخطباء في الجوامع حين يعتلون المنبر يخطبون على طريقة السلف (اي بالغناء على المنبر) على مقام الطاهر مثلاً ويضيف:
(في الجمعة الاولى قلدت الطريقة القديمة وهذه موجودة منذ مئتي الى ثلاثمئة سنة حتى ان مفتي بغداد رحمه الله قال آنذاك -لما عينوني خطيباً اعددت الخطابة نقمة لانني اجهل بأصول النغمة) ويواصل الشيخ البغدادي حكايته قائلاً.. المهم (غنية) على مقام الطاهر بالقول, (الحمد لله ثم الحمد لله.. ما توفيقي ولا اعتصامي الا بالله.. عليه توكلت واليه أنيب).
وحين حلت الجمعة الثانية الغيت الطريقة القديمة وبدأت أتكلم والكلام في الخطبة يحتاج الى حماسة وتشجيع.. وبدأت بحماسة ولكن الحضور استغربوا ما اقول وتجهزوا لقتلي وهم يقولون (بابا هذا بدا يلعب بالدين لعب) وطبعاً كان الاعتداء عليّ فيه اجر وثواب كما يعتقدون!
ولكن من حسن الحظ ومشيئة القدر في تلك الجمعة ان جاء الى جامع المرادية مساجين انتهت مدة محكوميتهم ليسلموا علي لأنني كنت ايضاً واعظاً في سجن باب المعظم (حالياً بناية الصحة) وشاهدوا الاجواء في المرادية فقالوا.. (الذي يتحرش بفلان نقتله ونعود للسجن) فخاف الناس وتراجعوا!!
وفي الجمعة الثالثة حل علينا بشير الصقال وهو من علماء الموصل فقدمته على المنبر وبدأ وخطب كما كنت افعل.. عندها انتبه الأهالي بان اهل الموصل (لايغنون في الخطبة) وبدأ الناس يتساءلون وقالوا: هذا ليس شغل صبيان.. لان هذا العالم الجليل (الصقال) لم يغنِ.. ومن يومها أخذت اخطب بلا غناء.
لو تجاوزنا عام 1935 تاريخ الحكاية الطريفة التي يرويها الشيخ الحنفي, فان تاريخ هذا المبنى الديني (جامع المرادية) يعود الى زمن ابعد من هذا بكثير.
يعدُّ جامع المرادية الذي يقع في مدخل شــــارع الرشــــيد من جهة الباب المعظم –مقابل وزارة الدفاع تقريباً- واحداً من اهم العمائر التراثية المماثلة له في بغداد وذلك لتفرده ببعض الخصائص الفنية, وبالذات في منارته, ويذكر الباحث التراثي, المنهدس جمال عبدالكريم, بان هذه التسمية لحقت بالجامع نسبة الى والي بغداد مراد باشا (1566-1574) وهذا يعني بأن المبنى يعود الى القرن السادس عشر الميلادي, وعلى رواية المهندس عبدالكريم, فأن الجامع قد تعرض الى بعض التخريب ولذلك جرت عليه عدة ترميمات في بداية القرن الماضي, من غير ان تمس تصميمه الاصلي.
تفاصيل معمارية
يتميز المرادية بمساحته الواسعة, وهو الامر الذي سمح للمعماري ان يتصرف بقدر واضح من الحرية في اعطاء مرافق الجامع ابعاداً جيدة وخاصة تلك التي تحتاج الى مساحات مناسبة كما هو الحال في بيت الصلاة الذي تبلغ مساحته 275 م2 او الصحن وكذلك القاعة والمكتبة والحديقة وعموم الممرات والمرافق الاخرى.
يضم المبنى مصلى صيفياً, ومصلى شتوياً, وقد روعيت جدران المصلى الشتوي فجعلت سميكة لكي تتحمل ثقل وضغط سبع قباب فوقها, واكبر هذه القباب قبة بلاط المحراب التي يبلغ قطرها 9.5 م , وهي ذات شكل نصف كروي مفلطح ومدبب, اما قاعدتها فتخلو من النوافذ.
فنياً يمكن ان نلاحظ عناية واضحة بالقبة حيث تمت تغطيتها بقراميد بأسلوب غير تقليدي, فهي تقدم نفسها على هيأة معينات متصلة, ولايستبعد السيد عبدالكريم ان تكون هذه التغطية الخارجية للقبة هي من التجديدات اللاحقة التي اضيفت على الاصل, اما بالنسبة لصورتها من الداخل, فهناك شريط يغلف رقبتها بالكامل, وهذا الشريط اعتمد على الخطوط, او الكتابة القرآنية تحديداً, حيث اعتمد آية الكرسي لاغراض التزيين.
المعلم الاجمل
ربما كانت مئذنة الجامع هي من اكبر المعالم مدعاة للتأمل, فهي تحتل الركن الشمالي الغربي من المصلى الصيفي وتتصل به من جهتين, وتنتج عن هذا الاتصال انصاف اعمدة نصف اسطوانية, وفي هذا الصدد يقدم لنا مؤلفو كتاب (العمارات العربية الاسلامية في العراق - جـ1) صورة تفصيلية عن المئذنة, من بينها ان قاعدتها مربعة بمساحة 12.25 م2 وبدنها اسطواني رشيق يبلغ قطره (2.5م) ويخترقه سلم حلزوني يبدأ من فوق سطح المصلى ويؤدي الى الحوض الذي يستند على 4 صفوف من المقرنصات, وتتميز الرقبة بالرشاقة كذلك وهي متوجه برأس بصلي مضلع ومدبب.
القراميد القاشانية ذات الزخارف النباتية والالوان المشرقة البراقة تكسو المئذنة كلها, وينوه الباحث عبدالكريم الى ان التمعن في القراميد يعطينا فكرة واضحة على ميلاد ظاهرة فنية غير مسبوقة في اسلوب التشكيلات الزخرفية, فالمعروف بان التفنن بطرائق رصف الطابوق كان هو السائد في مساجد بغداد لاعطاء تشكيلات هندسية فنية, في حين اصبح الفن هنا قائماً على القراميد القاشانية ذات الزخارف النباتية التي تهيأ الرسوم فوقها قبل ان تُرصف على المئذنة, وهذا أمر يحدث لأول مرة في مجال تزيين المساجد.
يستند الحوض على اربعة صفوف من المقرنصات بسيطة في تركيبها جميلة في مظهرها وحناياها مشغولة بقراميد قاشانية مزخرفة, ولايختلف وجه الحوض عن البدن كما لاتختلف الرقبة كذلك.
ويلاحظ بأن الجامع بني بالطابوق والجص بأستثناء المئذنة التي اعتمدت على الحجر, مثلما يلاحظ بأن اسلوب الزخرفة الذي قام على القرميد القاشاني بدلاً من أشكال الطابوق الهندسية قد استهوى المعماريين والفنانين كثيراً فراحوا ينقلونه الى مساجد بغداد الاخرى شيئاً فشيئاً حتى اصبح هذا الاسلوب هو السائد.
ويرى مؤلفو الكتاب الذي اشرنا اليه بأن مئذنة جامع المرادية هي اجمل مآذن بغداد من حيث رشاقتها وتقنية تشكيلاتها الزخرفية وجمال مقرنصاتها ووجود مقرنصات تسند قاعدة رأسها, كما يرون بأن مصلى الجامع هو إنموذج لعدد من مساجد القرن السادس الهجري ومساجد القرون اللاحقة.
منقول