14 رمضان
14 رمضان
حركة النفس الزكية
مفكرة الإسلام : إن الله عز وجل قد وضع مقدمات لنتائج وأسباباً لمسببات وسنناً كونية لا تتبدل ولا تتغير إلا بإذن الله عز وجل من أخذ بتلك الأسباب وسلك تكل المقدمات وصل للمسببات والنتائج حتى يقطع الطريق على هؤلاء الكسالي والمتواكلين الذين ينتظرون نصراً بلا عمل وفوزاً بلا سعي وسماءاً تمطر عليهم ذهباً وفضة , صفحتنا تلك مثال حي على إرادة التغيير دون اتخاذ العدة اللازمة لذلك , وإن تاريخ حركات التغيير ليعتبر باباً مستقلاً بذاته في التاريخ يجب دراسته والاستفادة منه وبيان أسباب نجاح وفشل بعض الحركات إن كنا نأمل في تغيير واقع ضخم بعيد كل البعد عن هدي الإسلام وصورة المجتمع المسلم المرجوة .
منذ أن خرج الحسين بن علي رضي الله عنهما على الخليفة الأموي يزيد بن معاوية وكأنها قد أصبحت سنة في البيت الطالبي يقوم بها من الحين للآخر رجال منهم فلقد أعقب الحسين حفيده زيد الخروج على هشام بن عبد الملك وانتهت كلتا الحركتين بقتل قائدها وتلي ذلك عبر التاريخ الإسلامي محاولات كثيرة للخروج على الحكم الذي اعتبره الطالبيون ظالماً ومخالفاً للكتاب والسنة وحركتنا تلك التي نؤرخ لها تعد أقوى حركات التغيير الطالبية والتي كادت أن تحقق ما قامت من أجله .
عندما قام العباسيون بدعوتهم لإزالة الأمويين رفعوا شعاراً يجمع الناس كلهم تحته على اختلاف مشاريعهم وأهوائهم وهو شعار الدعوة لمن يرضونه من آل محمد صلى الله عليه وسلم وساعد على ذلك العلاقة الطيبة بين البيت العباسي والبيت الطالبي وأن أصل دعوة العباسيين كانت بيد أبي هاشم بن محمد بن الحنفية ولم يكن له عقب فلم أحس بدنو أجله نقل الإمامة وشيعته إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس , وعندما تنجح الحركة العباسية وتزيل دولة بني أمية يفاجئ الطالبيون أن الدولة والحكم أصبح عباسياً محضاً فبدأ الطالبيون في المطالبة بحقهم في الحكم ولكن لم يظهر منهم شئ خلال حكم الخليفة العباسي الأول المعروف بالسفاح وإنما بدأ العمل بالحركة عند استلام أبي جعفر المنصور للأمر , حيث امتنع محمد بن عبد الله بن حسن وأخوه إبراهيم عن البيعة وكان هذا إيذاناً ببدء الحركة .
من هو قائد الحركة ؟
هو محمد بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الملقب بالنفس الزكية لعلمه وورعه وعبادته وزهده والمسمى بصريح قريش لأن أمه وجداته كلهن عربيات لم تكن واحدة منهن من الجواري , كان ضخماً أسوداً شجاعاً عابداً زاهداً دنياً محبوباً عند الناس وهو أهيب في صدورهم من الأسد وكانت العيون والظنون كلها تتجه إليه عندما بدأ العباسيون دعوتهم للرضا من آل محمد صلى الله عليه وسلم حتى أنه ثبت تاريخياً أن الناس قد بايعوه سراً أيام ملك مروان بن محمد آخر الأمويين وكان من ضمن الذين بايعون أبو جعفر المنصور نفسه , فلا عجب إذا أن يكون مثل هذا الرجل ممن يقود تلك الحركة للتغيير حتى أنه نفسه وتحت ضغط أتباعه قد اعتقد أنه المهدي المذكور في الحديث لمواطأة اسمه لاسم النبي ولأنه من نسل فاطمة حتى شاع ذلك بين الناس فعلاً وصدقوه لذلك حاول أبو جعفر المنصور القيام بسياسة مضادة فأطلق على ولده لقب المهدي حتى عرف بعد ذلك بهذا اللقب وغلب على اسمه الحقيقي .
عندما رفض محمد وإبراهيم مبايعة أبي جعفر المنصور ألح في طلبهما وكلف والي المدينة زياد بن عبيد الله الحارثي بالبحث عنهما وإحضارهما ولكن زياداً تساهل لخوفه من أن تتلوث يداه بدمائهما فعزله المنصور وولى مكانه محمد بن عبد الله القسري وزوده بالمال اللازم لذلك ولكنه أبطأ في البحث عنهما لنفس السبب السابق فعزله المنصور وولى مكانه أعرابياً جلفاً غير معلوم ليتفانى في الطاعة وهو 'رياح بن عثمان المري ' فكان أول ما فعله هو أن قام بأخذ عبد الله بن حسن وباقي أخوته وأولاده وباقي آل الحسن فحبسهم في السجن ولكن محمداً وإبراهيم بقياً مختفيان وبالغا في الاختفاء والهروب , فلجأ عندها المنصور الداهية للحيلة والدهاء في استخراج محمد بن عبد الله وفي نفس الوقت شدد العذاب على آل الحسن حتى مات تحت التعذيب أخو عبد الله بن حسن لأمه وهو محمد العثماني ثم مات محمد بن إبراهيم بن حسن وعلي بن حسن بن حسن وكاتب المنصور النفس الزكية مظهراً أن هذا الرسائل من قواد الجيش العباسي الذين يتظاهرون بالتأييد للنفس الزكية وصدق النفس الزكية الكلام وهذا دعا أبا جعفر المنصور لأن يقول 'استخرجت الثعلب من جحره' .
بعد رحلة طويلة من الاختفاء والهروب مع المعاناة النفسية لما لحق بالأهل والعشيرة وتحت ضغط الأتباع تعجل محمد الخروج في المدينة وذلك قبل الموعد المقرر والمتفق عليه مع أخيه إبراهيم الذي سيخرج في البصرة ,وهذا العجلة عادة ما تتسبب في فشل الحركة بأسرها فخرج محمد في المدينة – والتي هي أصل الأماكن للثورات لوجود البيت الطالبي بفرعيه الحسني والحسيني فيه ولغلبة سيرة أبي بكر وعمر على أهلها – واستولى على مقاليد الأمور فيها في آخر شهر جمادى الآخرة وحبس واليها 'رياح المري' وأخذ البيعة من أهلها في المسجد النبوي ويروى أن الإمام مالك أفتى للناس بجواز ذلك وأن بيعتهم للمنصور بيعة مكره والغالب أن هذا لا يصح والصواب أن المنصور ضرب مالكاً على فتواه بعدم انعقاد طلاق المكره خوفاً من أن يتخذها الناس وسيلة للنكوث عن بيعته , ووصلت الأخبار للمنصور بخروج محمد في المدينة وكان المنصور لا يقدم على عمل حتى يستشير ذوي الكفاءات والمهارات والخبرة فيعمل بمشورة أصحابه ويرسل جيشاً بقيادة ابن أخيه وولي عهده من بعده – وقد خلعه بعد ذلك – عيسى بن موسى لمحاصرة المدينة .
عندما يعلم محمد بقدوم جيش المنصور يجمع أصحابه لاستشارتهم فيشير بعضهم بالخروج إلى مصر للتحصن بالأموال والرجال وهذا رأي سديد حكيم ولكن صوت العاطفة يغلب صوت العقل ويرفض الخروج من المدينة عملاً بالحديث 'رأيتني في درع حصينة فأولتها المدينة' وهذا عمل في غير محله , وصل جيش المنصور إلى حدود المدينة وألقى عليها الحصار وأرسل قائد الجيش عيسى بن موسى يستميل زعماء المدينة ويعرض على أهلها الأمان وهذا أدى لأن يتخلى الكثير عن النفس الزكية في أحرج اللحظات ودارت مفاوضات ورسائل بين الطرفين انتهت إلى حتمية القتال وقد كان في يوم الاثنين 14 رمضان 145هـ ودارت رحى حرب غير متكافئة ولكن من ثبت مع النفس الزكية كانوا من الأبطال الكمأة الذي يقدر الواحد منهم بالمئات وعلى رأسهم النفس الزكية والذي قتل بسيفه في تلك المعركة سبعين رجلاً وشعر ابن خضير 'مساعد النفس الزكية' بقرب الهزيمة فدخل المدينة مسرعاً وقتل رياح المري وأخاه ابن مسلم المري الذين سفكوا دم آل الحسن وأحرق ديوان الأسماء المشتركة مع النفس الزكية حتى لا يعرفوا ثم عرض على النفس الزكية أن يخرج لمكة ولكنه يرفض ويواصل القتال حتى يبقى وحده ويتكاثر عليه الناس فيقتلوه ووصلت الأخبار للمنصور أن النفس الزكية قد فر وهرب فقال المنصور 'لا نحن من أهل بيت لا نفر ' .
على الطرف الآخر كان إبراهيم قد خرج في البصرة على كره ومضض لأن أخاه طلب منه الخروج قبل الميعاد المعين لذلك ولكنه يضبط الأمور فيها وينضم إليه أبطال العراق وساداتهم وعلمائهم حتى أفتى أبو حنيفة بجواز الخروج معه وتبرع له بالمال الكثير ونزل المنصور بنفسه على رأس جيش عند الكوفة حتى لا ينضموا إلى البصرة ولو كان إبراهيم صاحب خبرة عسكرية لأمكن له وبسهوله القضاء على المنصور وجيشه , واستطاع إبراهيم أن يستولي على الأهواز وفارس وواسط وفي خضم الأحداث المتلاحقة جاءت الأخبار بمصرع النفس الزكية لأخيه إبراهيم فكسره ذلك بشدة وأثر على نفسيته وفي هذه الأثناء أرسل المنصور إلى جيشه في المدينة أن يأتي مسرعاً إلى البصرة وأرسل إلى قائد آخر اسمه خازم بن خزيمة أن يأتي لاستعادة الأهواز مرة أخرى , وهنا قرر إبراهيم التوجيه بجيوشه إلى الكوفة للاستيلاء عليها وبذلك يصبح العراق كله تحت رايته ولكن جيشه رغم ضخامته وسلاحه القوي إلا أن الاختلاف دب بين صفوف القادة بسبب الاختلاف على خطة القتال والتي غلب عليها أيضاً العاطفة والديانة .
المهم التقى الجيشان عند منطقة 'باخمرا' قريباً من الكوفة وكان النصر في بادي الأمر حليفاً لإبراهيم وجيشه وفر معظم قادة المنصور وعندما علم المنصور بذلك أعد الرواحل والإبل للهروب ولكن إبراهيم ارتكب غلطة تنظيمية في الحرب أدت في النهاية لهزيمة جيشه وقتله هو نفسه حيث أمر جنوده ألا يتبعوا أحد من الفارين عملاً بالقاعدة الشرعية في ذلك عند القتال بين المسلمين فإبراهيم أولاً وأخيراً مسلماً يعرف شرع ربه وعندها يرجع جيش إبراهيم ويكف عن ملاحقة الفارين وعندها انقلبت موازين القوى وقويت نفوس جيش المنصور وظنوا أن جيش إبراهيم رجع مهزوماً وتحمسوا في القتال .
كان المنصور قد سمع بأخبار هزيمة جيشه فأعد الإبل للهروب ولكن انكشفت الحقيقة وهي انتصار جيوشه على جيش إبراهيم الذي قتل في أرض المعركة بسهم جاءه في عنقه فنزل عن فرسه وهو يقول 'وكان أمر الله قدراً مقدوراً' وهكذا انتهت هذه الحركة بمقتل إبراهيم وتفرق أصحابه بعد الهزيمة ذلك لأنها حركة مرتبطة بشخص قائدها وكل حركة ترتبط بشخص أو قائد فيه حتماً دعوة وحركة ذاهبة وفانية لفناء البشر وعدم بقاءهم وأي حركة تريد أن تنجح وتستمر لابد لها من توافر كوادر وقيادات على كافة المستويات لتضمن التواصل .
قتل المختار بن عبيد الثقفي:
من حوادث اليوم الرابع عشر من رمضان المبارك مقتل المختار بن عبيد الثقفي ويكنى أبا إسحاق .
والمختار أخو صفية زوجةِ عبد الله بن عمر بن الخطاب ، خرج على الأمويين وعلى ابن الزبير، وسعى نحو السيطرة على العراق ، وكان له شأن وأخبار وإدعاءات.
يقول ابن الجوزي (المنتظم 5/67) عن رفاعة القتباني قال: دخلت على المختار فألقى إليّ وسادة وقال :
ـ لولا أن أخي جبريل قام عن هذه لألقيتها إليك!!
قال : فأردت أن أضرب عنقه فذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم( من أمّن مؤمناً على دمه فقتله فأنا من القاتل بريء.)..
وكانت ثورة المختار إبان حكم عبد الملك بن مروان وأيام عبد الله بن الزبير
قتل المختار لأربع عشرة ليلة خلت من رمضان سنة سبع وستين هجرية وهو ابن سبع وستين سنة. على يد قائد جيش عبد الله بن الزبير مصعب بن الزبير.
فتح مدينة سرقوسة في صقلية:
ومن حوادث اليوم الرابع عشر من رمضان سنة 264هـ أن المسلمين ملكوا مدينة (سرقوسة) في جزيرة صقلية.
قال ابن الأثير في (الكامل 6/279) وفي هذه السنة رابع عشر رمضان ملك المسلمون سرقوسة ، وهي من أعظم صقلية.
وكان سبب ملكها أن جعفر بن محمد أمير صقلية غزاها وغيرها من البلاد التي بيد الروم أمثال قطانية وطبرمين ورمطه، ونازل سرقسطة براً وبحراً ، وملك بعض أرباضها، ووصلت مراكب للروم نجدة لها ، فسير إليها جعفر بن محمد أسطولاً فأصابوها فتمكنوا حينئذ من حصرها.
وأقام العسكر محاصرا لسرقوسة ستة أشهر إلى أن فتحت، وأصيب فيها من الغنائم ما لم يصب بمدينة أخرى ، ولم ينج من رجالها إلا الشاذ الفار .
وأقام المسلمون فيها بعد فتحها شهرين، ثم وصل من القسطنطينية أسطول للروم، فالتقوا هم والمسلمون، فظفر بهم المسلمون وأخذوا منهم أربع قطع ثم تركوهم.
إن الوجود الإسلامي في صقلية الذي دام 472 عاماً يمثل صفحة عامرة مشرقة في تاريخ الإسلام، صفحة عامرة بالبطولة والتضحية وحمل الدعوة، والاستماتة في سبيل حمل الدعوة وحمايتها. لكنه لم يخل من نكسات حالت دون مواصلة الفتح في عمق أوروبا وكانت من الأسباب الرئيسية في انحسار حمل الدعوة عن وسط أوروبا. ولعل تاريخ الفتوحات الإسلامية لم يعرف فتحاً أعنف وأقسى وأشق من فتح صقلية التي لم يسيطر المسلمون عليها سيطرة كاملة إلا بعد مرور ثلاثة أرباع القرن على نزول الفاتح أسد بن الفرات ورجاله إلى مرسى مزارا في جنوب غرب صقلية الموافق يوم الثلاثاء 18 ربيع الأول سنة 212هـ الموافق 17 يونيو 827م.
ولقد برز من خلال الفتح الإسلامي في صقلية أبطال أسطوريون انحنى أمامهم العدو احتراماً وتقديراً وأشادت الرواية الأوروبية بصلابة إرادة المسلمين وحسن قيادتهم وتأثيرهم الميداني والشخصي على سير الأحداث وفي طليعة هؤلاء أسد بن الفرات قاضي القيروان العالم الجليل الذي بلغ السبعين من عمره وتطوع لقيادة أول حملة لفتح صقلية ولولا إيمان هذا القائد وتأثيره القوي على الجنود لما تحقق هذا الفتح حيث انبهر المؤرخ الإيطالي أماري بشخصية هذا القائد في زهده وإيمانه، وقال عنه إنه رجل يتطلع إلى ما وراء هذا العالم ويتخذ من العلم والجهاد وسيلة لبلوغ الرسالة التي خرج من أجلها. وكذلك المجاهد إبراهيم الثاني الأغلبي الذي تخلى عن الملك لابنه عبد الله وجاء إلى صقلية مجاهداً زاهداً يبغي مجد الإسلام، وقد استطاع بحزمه وإيمانه أن يحقق للمسلمين السيطرة الكاملة على الجزيرة بعد اقتحام قلعة طيرمينة في عام 279هـ الموافق 902م وطرد آخر بيزنطي من صقلية. وكان إبراهيم يرمي إلى مواصلة التقدم في إيطاليا شمالاً والوصول إلى روما لفتحها مصداقاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن المرض لم يمهله لتحقيق حلمه فقضى نحبه قرب أسوار مدينة كوسنـزا. والمجاهد الثالث هو عباس بن الفضل الذي قاد جيوش أبي الأغلب إبراهيم أمير صقلية والذي تولى القيادة من بعده وكان له الفضل في فتح المسلمين قصربانه التي كانت من أهم المعاقل الدفاعية للجيش البيزنطي وذلك سنة 244هـ 859م) وفي إلحاق هزيمة نكراء بأسطول بنـزنطية قرب سيراكوزا واعتبر المؤرخون الأوروبيون عباس بن الفضل من أمهر وألمع القادة المسلمين الذين واجهتهم الجيوش الأوروبية.
أصبح المسلمون منذ انتصارات إبراهيم الثاني حتى بداية الغزو النورماني أسياداً بدون منازع لجزيرة صقلية لمدة مئة وخمسين عاماً تخللتها معارك وغارات وحملات متبادلة بين المسلمين والأوروبيين. ومع ذلك ظلت صقلية طيلة هذه الفترة أرضاً إسلامية واعتنق الكثير من أهل البلاد الدين الإسلامي وانخرطوا في الجهاد وشاركوا في فتح مالطة وبرز منهم كثير من الرجال الذين تبؤوا مناصب مهمة في صقلية نفسها وفي الأندلس ويكفي أن نذكر منهم جوهر الصقلي الذي وطد أركان الدولة الفاطمية وقد اعتبر المؤرخون أن التسعين عاماً التي حكمت الجزيرة خلالها الأسرة الكلبية الموالية للفاطميين العصر الذهبي لصقلية من حيث انتشار العلوم والفنون والثقافة ومن حيث ازدياد القوة العسكرية وحماية الجزيرة من الهجمات والغارات المعادية. وقد عرفت أوروبا الطب والفلسفة والعلوم والفنون المعمارية والحرير المطرز والتحف والنفائس عن طريق فتح المسلمين لصقلية.
وقد جعل الفتح الإسلامي لصقلية البحر المتوسط بحيرة تحت السيادة الإسلامية الكاملة وأصبحت صقلية قاعدة تنطلق منها الحملات والغزوات الإسلامية التي شملت جميع أنحاء إيطاليا من البندقية أو جنوا إلى روما وباري وعلى طول ساحل البحر الأدرياتيكي.
لقد استمر سلطان الإسلام مستقراً في صقلية، ينشر الهدى والنور فيها وما حولها إلى أن دب التنازع والشقاق في صفوف المسلمين، فبدأ سلطانهم ينحدر، فاستغل الفرصة (روجير النورماني) فغزا الجزيرة سنة 1136م. يقول ابن الأثير إن مسلمي صقلية أرسلوا وفداً إلى المعز بن باديس لطلب النجدة فأعد أسطولاً وقوات كبيرة ثم وجهها إلى صقلية إلا أنها تعرضت للغرق إثر عاصفة بحرية قرب نتللريا وبعد وفاة المعز وفقاً لرواية ابن الأثير أرسل ابنه تميم نجدة إلى صقلية بقيادة ولديه أيوب وعلي لكنهما انسحبا وعادا إلى إفريقيا بجنودهما وتركا صقلية إلى مصيرها.
لقد صاحب الغزو النورماني لصقلية هجرة إسلامية واسعة إلى إفريقيا ومصر وغيرها من البلدان العربية وعندما سيطر النورمانيون على الجزيرة قُدر عدد المسلمين الذين ظلوا بصقلية ما بين المئة والثلاثمائة ألف مسلم من العرب والبربر والصقليين الذين اعتنقوا الإسلام وقد تجمع القسم الأكبر منهم في بالرمو وساحل (مازار) وسهولها.
وشهدت صقلية أول مذبحة للمسلمين بعد وفاة روجير الثاني سنة 1161 حيث قتل عدد كبير منهم في أعنف حملة تطهير ودمرت أحياؤهم السكنية ونهبت أموالهم ومتاجرهم وشهد عام 1189م و1190م زوال الوجود الإسلامي من بالرمو ومعظم مدن صقلية وإن ظل يقيم بها أفراد غيروا أسماءهم واعتنقوا المسيحية. إزاء هذا العداء الصارخ هب ما تبقى من المسلمين للدفاع عن أنفسهم وأرواحهم ودينهم وتزعم هذه الحركة حسب رواية ابن جبير عدد من القادة برز من بينهم محمد بن عباد الذي عرفته الرواية الأوروبية باسم (المرابط) وقام بثورته ما بين العقدين الثاني والثالث من القرن الثالث عشر وشغل قوات فردريك في معارك قاسية. لكن فردريك استطاع أن يحاصر ابن عباد وضيق الخناق عليه حتى استسلم بشرط ان يتمكن من مغادرة صقلية مع أولاده إلى إفريقيا ووعده فردريك بذلك إلا أنه غدر به ونقله إلى بالرمو حيث أعدمه مع اثنين من أولاده وواصلت من بعده القتال ابنته التي لم يذكر اسمها. وكذلك أورد الحميري قصة ابن العباد ومقاومته ومن ثم إعدامه حيث قال إن فردريك وعد محمد بن عباد بأن يسمح له بالسفر مع أولاده إذا استسلم إلا ابنته رفضت الاستسلام ونصحت أباها بعدم الاستسلام وعندما رفض نصيحتها فضلت البقاء في القلعة ومعرفة ما سوف ينتهي إليه أمر والدها وعندما علمت بما حل بوالدها واصلت المقاومة وصممت على الاستماتة في القتال فخرجت مع رجالها من القلعة وغارت على جيش فريدريك بغية فك الحصار 619هـ ـ 1222/1223م وصممت على الانتقام لوالدها وذات يوم أرسلت إلى فريدريك تعلمه أنها تريد الاستسلام ولكنها تخشى ممانعة رجالها لها. ولذلك فإنها تطلب منه إرسال ثلاثمائة فارس من خيرة رجاله ليلاً وأخبرته أنها سوف تفتح لهم القلعة وتمكنهم من الاستيلاء على القلعة وسر فردريك من الفكرة وأرسل إليها فرسانه وفي الصباح توجه فريدريك إلى القلعة ففوجئ برؤيته رؤوس فرسانه تتدلى فوق أسوار قلعة عنتبلا وحاول فريدريك استدراجها بالحيلة والإغراء فأمنها على حياتها إذا استسلمت ووعدها بالزواج إلا أنها واصلت المقاومة مع رجالها والحصار الطويل حتى نفذت المؤن والأغذية من القلعة واشتد بها وبرجالها الحال إلا أنها قتلت في معركة مع من كان معها من المسلمين دون استسلام وبعدها اقتحم فريدريك القلعة واستولى على من تبقى منها واختتم ما تبقى من الفصل الأخير من حياة المسلمين داخل جنوب إيطاليا ببطولة فتاة مسلمة ضربت أروع مثل في الشجاعة والإباء والتضحية وسط سلسلة من التخاذل والخيانة والأنانية وقصر النظر الذي قضى على ثاني سلطان إسلامي في أوروبا بعد الأندلس. إلا أنه لم تنته المقاومة بعد استشهاد بطلة غنتيلا بل استمرت المقاومة في جرجنت الأمر الذي دفع فريدريك إلى إبعاد المسلمين خارج صقلية واختار لهم موقع لوتشيرا على فترات زمنية امتدت حتى منتصف القرن الثالث عشر وفي أواخر القرن الثالث عشر في صيف عام 1300 هجم الإيطاليون على لوتشيرا وكانت حملة صليبية اشترك الجميع فيها وفي ذبح وقتل المسلمين رجالاً ونساءً وأطفالاً وشيوخاً ونهب أموالهم وممتلكاتهم ودمروا المساكن وتقاسموا أراضيها وقضى على البقية من المسلمين وأزيل وجودهم نهائياً من إيطاليا بعد أن دام 472 عاماً .
تمرد في جيش المماليك ومطالبة بزيادة الرواتب:
ومن حوادث الرابع عشر من رمضان سنة 832هـ ما ذكره ابن تغري في (النجوم الزاهرة 14/330) من حادثة رفض عسكري من قبل المماليك لتسليم رواتب السلطان مطالبين بزيادة كبيرة.
قال: وفي يوم الخميس رابع عشر من رمضان حُملت جامكية المماليك السلطانية (رواتبهم المقررة) إلى القلعة (قلعة القاهرة) لتنفق فيهم على العادة ، فامتنعوا من قبضها، وطلبوا زيادة لكل واحد ستمائة درهم ، وصمموا على ذلك ، وترددت الرسل بينهم وبين السلطان الملك الأشرف إلى أن زيد في جوامك عدة منهم وسكن شرهم ، وأخذوا الجامكية في يوم الاثنين ثامن عشرة.
من المماليك؟ وما موطنهم الأصلي؟ وكيف وصلوا إلى الحكم؟ وما دورهم في حماية العالم الإسلامي ؟
يذكر فضلهم في أول هزيمة أصابت المغول.
إن المؤرخين جميعًا يعتبرون انتصار المماليك انتصارًا عالميّا؛ فقد عجزت الدولة الخُوارزمية، والدولة العباسية عن مقاومة المغول أو مدافعتهم، وبعد أن انهارت القوى المسيحية أمام الزحف المغولي على أجزاء من "روسيا" و"بولندا" و"المجر" الحالية! لقد كانت "موقعة عين جالوت" أول صدمة في الشرق لجيوش المغول ورؤسائهم الذين خُيّل لمعاصريهم أنهم قوم لا يُغلَبون، فجاءت هذه الواقعة لتقول للدنيا لا غالب إلا الله، وأن فوق كل قوي من هو أقوى منه، وأن النصر من عند الله ينصر من يشاء.
ومن هنا كسبت سلطنة المماليك مركز الصدارة بين سلاطين المسلمين، كما استقامت لمصر زعامة جديدة في العالم الإسلامي. ولكن، ما أصل أولئك المماليك؟
أصل المماليك:
إنهم خليط من الأتراك والروم والأوربيين والشراكسة، جلبهم الحكام ليستعينوا بهم في القرن السادس الهجري وحتى منتصف القرن السابع.
كان كل حاكم يتخذ منهم قوة تسانده، وتدعم الأمن والاستقرار في إمارته أو مملكته، وممن عمل على جلبهم والاستعانة بهم الأيوبيون، وبخاصة في عصورهم المتأخرة لما أصابهم الضعف واحتاجوا إلى الرجال. لقد كانوا يُباعون للملوك والأمراء، ثم يُدَرَّبون على الطاعة والإخلاص والولاء.
المماليك في مصر:
وعرفت مصر نوعين من هؤلاء المماليك:
1- المماليك البحرية وهم الذين أسكنهم الملك الصالح الأيوبي قلعة في جزيرة الروضة، ونسبوا إلى بحر النيل، أو سمّوا بذلك لأنهم قدموا من وراء البحار، وهؤلاء حكموا مصر من سنة (648-784هـ/ 1250-1382م) وتداول عرش مصر في عهدهم أربعة وعشرون سلطانًا .
2- أما النوع الثاني فهم المماليك البرُجية أو الجراكسة، وسُمّوا بذلك لأن السلطان قلاوون أسكنهم أبراح قلعة الجبل، ولأن الجراكسة كانوا أكثر عددًا، وهؤلاء حكموا مصر من سنة (784-923هـ/ 1382-1517م) وهم ثلاثة وعشرون سلطانًا.
لقد عرفت البداية لدولة المماليك، ولقد كانت النهاية على يد العثمانيين عند مرج دابق والريدانية (حي العباسية) سنة 923هـ، وكانت الغلبة للعثمانيين الذين آلت إليهم ممتلكات المماليك ليبدءوا عهدًا جديدًا.
ولم يأخذ المماليك بمبدأ وراثة العرش، وإنما كان الطريق مفتوحًا أمام من أبدي شجاعة وإقدامًا ومقدرة. هذه هي المؤهلات في دولة المماليك التي قامت على أنقاض دولة الأيوبيين، وبعد مقتل توران شاه آخر سلاطين الأيوبيين بمصر.
التصدي للمغول:
إن المغول يزحفون..وإن الخطر قادم فلتتوقف الخلافات بين المسلمين، ولتتوحد القوى في مواجهة هذا العدو!
لقد استولى المغول علىالأراضي الإسلامية التابعة لخوارزم شاه، ثم واصلوا سيرهم -كما عرفت من قبل- مهددين العراق حتى أسقطوا الخلافة العباسية.
كانت مصر في ذاك الوقت يحكمها علي بن أيبك الذي كان في الخامسة عشرة، والذي تولى مصر بعد وفاة أبيه المعز أيبك، وكان ضعيفًا لا حول له في هذه الظروف الصعبة. وراحت مصر تتطلع إلى مملوك قوي يحمي حماها، ويصون أرضها. لقد سقطت الخلافة العباسية، واستولى التتار على بغداد وبقية مدن العراق، ثم اتجهوا نحو بلاد الشام التي كانت مقسَّمة إلى إمارات يحكمها أمراء أيوبيون، وتمكن التتار من الاستيلاء على حلب سنة 657هـ/1277م.
سيف الدين قطز:
وفي هذه اللحظات التاريخية ظهر "سيف الدين قطز" وقد تولى حكم مصر، وقال قولته المشهورة : لابد من سلطان قاهر يقاتل عن المسلمين عدوهم.
ووصلت إلى مصر صرخات أهل الشام، واستغاثات أمرائهم من الأيوبيين: أن تحركوا واعملوا على إنقاذنا، لقد قتلوا العباد، وخربوا البلاد، وأسروا النساء والأطفال، وأصبحت مصر هي الأمل بعدما ضاع الأمل في الخلافة، وفي أمراء الشام. خرج "سيف الدين قطز" في عساكره، حتى انتهي إلى الشام.
عين جالوت:
وكان اللقاء عظيمًا عند "عين جالوت" في الخامس والعشرين من رمضان الذي وافق يوم جمعة. ولأول مرة يلقى المغول من يصدهم ويهزمهم هزيمة ساحقة، وكان النصر لراية الإسلام. وكانت صيحة واحدة صدق بها المسلمون ربهم "وا إسلاماه"، وفي يوم واحد، انقلبت الأوضاع، وأذن الله بنصره بعد عصر طويل من الذل والمهانة، وبعد جبال الأشلاء وأنهار الدماء التي غرق فيها المسلمون .
عزة بعد ذل:
ولكي تدرك مدى الضعف الذي كان عليه المسلمون قبل أن يعودوا إلى ربهم، فاعلم أن التتري كان يلقى المسلم في بغداد وليس معه سيف، فيقول للمسلم: قف مكانك حتى أحضر السيف لأقتلك. فيبقى المسلم جامدًا ذليلا في مكانه حتى يأتيه التتري بالسيف فيقتله به!
لقد قاتل سيف الدين قطز قتالا عظيمًا، وقاتل معه الأمراء المماليك حتى النصر .
ووقف قطز يوم "عين جالوت" على رجليه تاركًا جواده، وهو يقول لمن راح يلومه على ذلك خائفًا عليه: إنني كنت أفكر في الجنة، وأما الإسلام فله رب لا يضيعه! لقد قام قطز بنفس الدور الذي قام به صلاح الدين.. عرف الحقيقة، وأعلنها على الناس:
لقد انهزمتم أمام التتار لتهاونكم في أمر دينكم، فاستمسكوا بهذا الدين، والله منفذ وعده الذي وعد
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون) [النور:55].
الظاهر بيبرس:
ولكنه لقي مصرعه وهو في طريق العودة بعد النصر! ويتولى الأمر من بعده "الظاهر بيبرس البندقداري"، يتولى سلطنة مصر، والشام، ويبعث بإحضار أحد العباسيين إلى مصر ويعينه خليفة للمسلمين، وهو المستنصر بالله، وقد تولى بعد مقتله الحاكم بأمر الله الخلافة بمصر، وأُطلق عليه أمير المؤمنين، وكان يدعي له على المنابر، أما الأمر والنهي فهو للمماليك حتى سقطت الخلافة، وانتقلت من العباسيين إلى العثمانيين.
قتال الصليبيين:
وإذا كان التاريخ قد سجل للمماليك في حرب المغول بطولة رائعة، فقد سجل لهم قبل سنة 648هـ/ 1250م بسالتهم وإقدامهم في قتال الصليبيين عند "المنصورة" وعند "فارسكور" بقيادة الظاهر بيبرس.
إن الظاهر بيبرس لم يترك سنة في فترة ولايته دون أن يغزو الصليبيين ويحقق انتصارات عليهم. لقد استرد "الكرك" سنة 661هـ/ 1263م، و"قَيْسَارِيَّة" سنة 663هـ/ 1265م، وكثيرًا من البلاد التي استولى عليها الصليبيون مثل "صفد"، و"يافا"، و"أنطاكية" سنة 666هـ/ 1268م. لقد وقف بيبرس للتتار وللصليبيين معًا بعد أن تحالفت قوى التتار والصليبيين ضد المسلمين. وكان لهما بالمرصاد، وأسس دولة المماليك تأسيسًا قويّا، وعندما لقي ربه سنة 676هـ/ 1278م، استمر الملْك في ذريته حتى سنة 678هـ/ 1279م .
الملك الأشرف خليل:
ومرت سنوات قبل أن يتولى الملك "الأشرف خليل" أمر البلاد بعد وفاة والده قلاوون سنة 690هـ/ 1281م، وفيها أسدل الستار على الصراع الصليبي مع المسلمين في العصور الوسطى .
لقد فتحت "عكا" وبقية مدن الساحل في هذه السنة، وهرب الصليبيون إلى "قبرص" التي أصبحت ملجأ لهم في الشرق، وهكذا قطع الله دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين .
لقد حُلّت العقدة التي سادت الناس جميعًا كما سادتهم قديمًا عن عدم إمكان هزيمة الجيوش المغولية مهما كانت أعدادها، وكسبت سلطنة المماليك مركز الصدارة بين سلاطين المسلمين، كما استقامت لمصر زعامة جديدة في العالم الإسلامي .
غزو الصليبيين:
ويستمر عهد المماليك البحرية حتى سنة 784هـ/1382م، وكان عهد استقرار ورخاء، ولكن بوفاة الناصر محمد بن قلاوون سنة 741هـ/ 1341م، اضطربت البلاد المملوكية مما شجع الصليبيين على غزو مصر سنة 767هـ/ 1366م، من جزيرة "قبرص" حتى سقطت الإسكندرية في أيديهم بعد أن ساءت أحوال البلاد لعدم وجود رجل قوي على رأس المماليك بعد الناصر قلاوون، وسقط كثير من الشهداء على أيدي الصليبيين الذين اعتدوا على البنات والنساء.
بداية عهد المماليك البرجية:
ولكن يشاء الله أن يبدأ عهد جديد على "المماليك البرجية" يعيد للمسلمين مجدهم، ويرفع راية الإسلام من جديد على ربوع الوادي .
لقد بدأ عهد المماليك البرجية بالظاهر برقوق سنة 784هـ/ 1382م، وانتهى بالأشرف قنصوه الغوري الذي قتل في مرج دابق على يد العثمانيين سنة 922هـ/ 1516م.
ولا ننسى للمماليك بصفة عامة دفاعهم عن الإسلام وأهله ودياره ضد التتار، فلقد أبلوا بلاء حسنًا، وكانوا خير عَونْ للإسلام والمسلمين في كل فترة من فترات تاريخهم .
حضارة المماليك:
ولقد اهتم المماليك بالأوضاع الحضارية من بناء للمدارس والمساجد والعمائر، حتى يعد عصرهم من أزهى العصور في العمارة، فقد كان للمماليك إسهام رائع في مجال العمارة، فقد أصبح فن العمارة على أيديهم إسلاميًا يستقي قواعده من مبادئ الإسلام وأصوله، ففن بناء البيوت مثلا على عهدهم انطلق من مبدأ منع الاختلاط والغيرة على النساء، فتبني البيوت الطابق الأول للرجال ويسمى"السلاملك" والسفلي للنساء ويسمى "الحرملك" ومدخل البيت ينحرف غربًا نحو دهليز ومنه إلى حجرة الضيوف، حتى لا يرى الدَّاخِل مَنْ في وسط البيت، وكانت هناك مداخل خاصة بالنساء فقط، وكانت شبابيك البيوت مرتفعة بحيث لا يرى السائر في الطريق ولو كان راكبًا من بداخل البيت، وكانت هذه الشبابيك عبارة عن خشب مثقوب يسمح بدخول الضوء والهواء، ويسمح لمن بداخل البيت برؤية من بالخارج بحيث لا يري من بالخارج من بداخل الحجرات .
كما كانوا يجعلون أماكن خاصة في الدور السفلي للدواب والمواشي، وحجرات خاصة للمطابخ، وهم الذين ابتكروا نظام دولاب الحائط الذي يوضع فيه الأطباق الخزفية، وعنهم أخذ هذا النظام.
وكان لهم اهتمامهم بالزراعة والصناعة، إلى جانب تأليف الموسوعات العلمية والأدبية، ومن هذه الموسوعات التي ازدهرت في عهدهم "صبح الأعشى في صناعة الإنشا" للقلقشندي، و"نهاية الأرب في فنون الأدب" للنويري .
كما ازدهرت في عهدهم التآليف التاريخية، مثل المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار للمقريزي، وكافة مؤلفاته، ومؤلفات ابن تغري بردي وغيرهما .
تولي السلطان حسن بن محمد قلاوون:
ومن حوادث الرابع عشر من رمضان أن الملك السلطان بدر الدين أبو المعالي حسن بن السلطان الملك الناصر محمد بن السلطان المنصور قلاوون. تولى السلطنة بعد مقتل أخيه حاجي.
قال ابن تغري (النجوم الزاهرة 10/187): وقام الأمراء بسلطنة حسن هذا ، وأجلسوه على تخت الملك بالإيوان في يوم الثلاثاء رابع عشر شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، ولما جلس على تخت الملك لقبوه بالملك الناصر سيف الدين حسن ، فصاحت الجاووشية (فرقة من الجيش) في الحال باسمه وشهرته ، وتم أمره وحلف له الأمراء على العادة.
وكان عمره يوم سلطنته إحدى عشرة سنة وهو السلطان التاسع عشر من ملوك الترك بالديار المصرية.
وكان من أبرز الأمراء في عهده ذوي النفوذ الأمير (منجك) الذي اشتد على الدواوين، وتكلم فيهم حتى خافوه بأسرهم، وقاموا له بتقادم هائلة ، فلم يمض شهر حتى أنس بهم واعتمد عليهم في أموره كلها ، وتحدث (منجك) في جميع أقاليم مصر (ضبطها) ومهد أمورها ، وكان يلقب منجك اليوسفي السلاح دار.
ولكن السلطان حسن خلع بعد أربع سنوات عام 752هـ، وتولى بعده أخوه الملك الصالح محمد ، وزج به في السجن .
ثم أعيد السلطان حسن إلى السلطة بعد ثلاث سنوات عام 755هـ، واستمر في السلطنة إلى أن قتله كبير قواده الأمير يلبغا سنة 762هـ.
عندما توفى السلطان" الصالح نجم الدين أيوب" فى 467هـ/ نوفمبر1249م خلا حربه مع الصليبيين فى مدينة المنصورة ، تمكنت زوجته شجرة الدر فى إخفاء الخبر حتى لا يؤدى إلى انخفاض روح الجيش . وأرسلت فى طلب ابنه الملك المعظم " توران شاه" الذى كان بعيدا عن مصر فى حصن " كيفا" .
ووصل توران شاه ونزل مباشرة بمعسكر السلطنة بالمنصورة وسلمته شجرة الدر مقاليد الأمور فأشرف على الحرب وخطط لها واستطاع أن يختم واقعة المنصورة بنصره على الصليبيين واضطر ملك فرنسا لويس التاسع إلى التسليم وتم أسره فى دار القاضى " ابراهيم بن لقمان" بالمنصورة .
إلا أن توران شاه تمكن فى فترة قصيرة من اكتساب كراهية زوجة أبيه شجرة الدر وكذلك مماليك أبيه فتآمر المماليك لقتله .
وعقب مقتله نادى كبار رجال الدولة بشجرة الدر سلطانة على مصر ولكنها لم تبق على عرش السلطنة إلا ثمانين يوما اضطرت بعدها للتخلى عن الحكم تحت ضغط الخليفة المستنصر بالله وكذلك عدم اقتناع أهل مصر بأن تتقلد أمورهم امرأة .
وتنازلت شجرة الدر عن العرش لزوجها الجديد عز الدين أيبك .
وقد حدث فى عهد سلطنة " أيبك" حادث نادر الوقوع وهو إقامة سلطانين معاً فى وقت واحد . فقد أتفق أمراء المماليك على إقامة سلطان آخر من بنى أيوب أصحاب الحق الشرعى فى سلطنة مصر ، وهو الملك الأشرف مظفر الدين موسى وله من العمر ست سنوات .
ولما قويت شوكة أيبك قبض على الملك الأشرف وسجنه ثم نفاه بعد ذلك وكان الملك الأشرف بذلك آخر ملوك بنى أيوب فى مصر وبعزله أنتهت رسمياً فترة حكمهم وبانفراد أيبك بالسلطنة بدأت فترة حكم المماليك لمصر فى 650هـ/1252م .
وكان المماليك طائفة من الأرقاء المشترين بالأموال لغرض تطعيم الجيوش العربية وتقويتها وكانوا خليطاً من الأتراك والشراكسة والروم وأقلية أوروبية. وقد عاشوا فى مصر كطائفة منفصلة عما حولها واحتفظوا بشخصيتهم ولم يختلطوا بأى عنصر من عناصر السكان المصريين .. وقد كثر عدد المماليك وزادت قوتهم وتقلدوا المناصب الهامة خاصة فى أواخر الدولة الأيوبية ، ولما مات الملك الصالح نجم الدين أيوب ثم قُتل ابنه توران شاه ثم تخلت شجرة الدر عن الحكم ، وجدوا الفرصة مهيأة أمامهم ليحكموا قبضتهم على حكم مصر وأن يكون سلطان مصر من بينهم .
وقد أنقسمت فترة المماليك لمصر إلى مماليك " بحرية" استمرت من 650هـ/1252م إلى 784هـ/1382م وقد أطلقت عليهم هذه التسمية لأن ثكناتهم كانت فى جزيرة الروضة التى يحيط بها بحر النيل .
ثم تلتها المماليك " البرجية أو الشركسية" وهم سكان أبراج القلعة والتى أنتهت بالفتح العثمانى لمصر على يد السلطان سليم الأول فى 923هـ/1517م .
ولا بد من الإشارة إلى أن حالة الدولة العباسية فى بغداد فى أول حكم المماليك لمصر كانت فى طريقها للانهيار ، وسهل هذا الوضع للماليك أن يضفوا الشرعية على حكمهم لمصر - و استندوا فى أول الأمر علي القوة الحربية - وذلك بالبحث عن تأييد الخلافة العباسية لهم تأييداً يدل على شئ من التبعية ، وهو ما حصلوا عليه بالفعل . وفى عهد الظاهر بيبرس وجد الفرصة مهيأة أمامه لاضفاء شرعية أكثر على حكمه وذلك باستضافة الخلافة العباسية فى القاهرة بعد انهيارها تماما فى بغداد من جراء هجوم التتار عليها بقيادة هولاكو فى 656هـ/يناير 1258م .
ووصل إلى القاهرة بدعوة من بيبرس أول خليفة عباسى يؤسس حكمه فى القاهرة وهو " أحمد بن الإمام الظاهر بن الإمام الناصر العباسى" .
واسُتقبل استقبالاً رسمياً عظيماً وتم إثبات نسبه بين يدى قاضى القضاه والقضاه والفقهاء وشهادة الشهود وبُويع بالخلافة . وكانت للخلافة العباسية فى مصر دور مظهرى بحت ولم يكن للخليفة التدخل فى تصريف شئون البلاد وأصبح كل عمله إسباغ السلطة الدينية على السلاطين لتوطيد دعائم ملكهم . بل وصل الأمر ببعض سلاطين المماليك إلى عدم السماح له بمغادرة داره إلا لأداء الصلاة .
وظلت الخلافة العباسية قائمة فى مصر إلى قيام الدولة العثمانية وفتحها لمصر على يد السلطان سليم الأول فى 923هـ/1517م . وقيام دولة الخلافة العثمانية .
وتولى سلطنة مصر 27 من المماليك البحرية و28 من المماليك البرجية وهم :
المماليك البحرية :
- السلطان الملك المعز عز الدين أيبك الجاشنكير التركمانى الصالحى من 648هـ/1250م إلى 665هـ/1257م وحكم بالاشتراك مع آخر سلطان أيوبى : الملك مظفر الدين موسى بن محمد وكان طفلاً إلى أن عزله أيبك فى 652هـ/1254م .
- وكان ذلك فى عهد الخليفة العباسى : المستعصم بالله بن المستنصر .
- السلطان الملك المنصور نور الدين على بن المعز أيبك من 655هـ/1257م إلى 657هـ/1259م .
- السلطان الملك المظفر سيف الدين قطز (1) من 657هـ/1259م إلى 658هـ/1270م .
- السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقدارى الصالحى (2) من 658هـ/1260م إلى 676هـ/1277م .
- وحكم هؤلاء فى عهد الخلفاء العباسيين : المستعصم بالله الذى قتل فى بغداد على يد هولاكو ملك التتار ثم استضاف بيبرس الخلافة العباسية فى مصر منذ المستنصر باللله بن الظاهر فى 659هـ/1261م والذى خلفه فى 661هـ/1263م الحاكم بأمر الله أبو العباس .
- وفى عهد الحاكم بأمر الله أبو العباس الخليفة العباسى المقيم فى القاهرة تولى سلطنة مصر :
- السلطان الملك السعيد ناصر الدين أبو المعالى محمد بن بركة خان بن بيبرس من 676هـ/1277م إلى 678هـ/1279م .
- السلطان الملك العادل بدر الدين سلامش بن الظاهر بيبرس من 678هـ/1279م إلى 679هـ/1279م .
- السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفى العلائى الصالحى من 679هـ/1279م وإلى 689هـ/1290م .
- السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل بن قلاوون من 689هـ/1290م إلى 693هـ/1293م .
- صلاح الدين خليل بن قلاوون خلف أباه الملك المنصور واشتهر عنه أنه فتح عكا بعد حصار دام 43 يوما واستولت قواته كذلك على صور وصيدا وبيروت وطرطوس من أيدى الصليبيين - قتله بعض المماليك .
- السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون ( للمرة الأولى) (3) من 693هـ/1293م إلى 694هـ إلى 1294م .
بُويع بالسلطنة بعد مقتل أخيه الأشرف خليل ولكنه خُلع لصغر سنه ، وأُعيد إلى السلطنة مرة ثانية ولكنه تنازل عنها مضطرا . وفى المرة الثالثة استطاع أن يبسط نفوذه وسيادته على الأقطار المجاورة حتى وصل إلى مكة والمدينة وأقيمت له الخطبة فى مصر وسوريا وطرابلس . من منشآته الهامة جامع قلعة الجبل والقصر الأبلق بالقلعة وقناطر السباع على الخليج الناصرى بظاهر القاهرة .
- السلطان الملك العادل زين الدين كتبغا المنصور من 694هـ/1294م إلى 696هـ/1296م .
- السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون( للمرة الثانية) من 698هـ/1298م إلى 708هـ/1309م .
فى سنة 701هـ/1302م تولى الخلافة العباسية فى مصر : المستكفى بالله أبو الربيع سليمان .
- السلطان الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير من 708هـ/1309 إلى 709هـ/1309م .
- السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون " للمرة الثالثة " من 709 هـ / 1309 م إلى 741 هـ / 1340 م .
* وفى 740 هـ / 1339 م تولي الخلافة الواثق بأمر اللّه لعدة شهور ثم تبعه فى منصب الخلافة العباسية الحاكم بأمر اللّه أبو العباس أحمد بن المستكفى .
وتولى سلطنة مصر فى عهده :
- السلطان الملك المنصور سيف الدين أبو بكر بن الناصر محمد بن قلاوون من 741 هـ / 1340 م إلى 742هـ1341م.
- السلطان الملك الأشرف علاء الدين كجك بن محمد بن قلاوون من 742 هـ / 1341 م الى 742 هـ / 1342م.
- السلطان الملك الناصر شهاب الدين أحمد بن محمد بن قلاوون من 743هـ/1342م إلي 743هـ/1342م .
- السلطان الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن محمد بن قلاوون من 743هـ/1342م إلى 746هـ/1345 م .
- السلطان الملك الكامل سيف الدين شعبان بن محمد بن قلاوون من 747هـ/1346م.
- السلطان الملك المظفر زين الدين حاجى بن قلاوون من 747هـ/1346م إلى 748هـ/1347م .
- السلطان الملك الناصر بدر الدين أبو المعالى حسن بن محمد بن قلاوون ( للمرة الأولى ) من 748هـ/1347م إلى 752هـ/1351م .
- السلطان الملك صلاح الدين صالح بن محمد بن قلاوون من 752هـ/1351م إلى 755هـ/1354م .
* فى 753هـ/1352م تولى الخلافة العباسية فى مصر المعتضد باللّه أبو الفتح أبو بكر المستكفى .
وتولى سلطنة مصر فى عهده :
- السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون ( للمرة الثانية ) من 755هـ/1354م إلى 762هـ/1361م .
- السلطان الملك صلاح الدين محمد بن حاجى بن قلاوون من 762هـ/1361م إلى 764هـ/1363م .
* فى 763هـ/1363م تولى الخلافة العباسية : المتوكل على اللّه عبد اللّه بن المعتضد .
وتولى سلطنة مصر فى عهده :
- السلطان الملك الأشرف زين الدين شعبان بن حسن بن محمد بن قلاوون من 764هـ/1363م إلى 778هـ/1376م .
- السلطان الملك المنصور علاء الدين على بن شعبان بن حسن من 778هـ/1376م إلى 783هـ/1381م .
* فى 778هـ/1377م تولى الخلافة العباسية أبو يحيى زكريا المعتصم بن الواثق ولكنه خُلع بعد شهر واحد ليعود للخلافة سلفه : المتوكل على اللّه أبو عبد اللّه محمد بن المعتضد .
- السلطان الملك الصالح زين الدين حاجى من 783هـ/1381م إلى 784هـ/1382م وشاركه فى السلطنة الأمير برقوق ( المملوك البرجى ) .
المماليك البرجية ( الشراكسة)
- اعتلي السلطان الظاهر برقوق السلطنة وحده 784هـ/1382م وبذلك انتهى مُلك بيت قلاوون وانتهت دولة المماليك البحرية .
وامتدت سلطنة الظاهر سيف الدين برقوق بن أنس اليبغاوى إلى أن توفى فى 801هـ/1399م .
* خُلع الخليفة العباسى المتوكل فى رجب 785هـ/1383م وتولى الخلافة أبو حفص عمر الواثق الأول ثم عاد المعتصم للخلافة فى شوال 788هـ/1386م ثم عاد المتوكل للخلافة للمرة الثالثة فى جمادى الأولى 791هـ/1389م .
وتولى سلطنة مصر :
- السلطان فرج بن برقوق " للمرة الأولى " 801هـ/1399م وكان حديث السن (10 سنوات ) وهرب من القلعة فى 808هـ/1405 م.
بينما تولى السلطنة فى مصر كل من :
- السلطان المنصور عبد العزيز بن برقوق 808هـ/1405م عند هروب أخيه فرج بايع الأمراء السلطان عبد العزيز ولكن فرج المختفى عاد إلى الظهور مرة أخرى بعد حوالى شهرين فعادت إليه السلطنة .
- السلطان فرج بن برقوق " للمرة الثانية " من 808هـ/1405م وقتل فى 815هـ/1412 م.
- بعد مقتل السلطان فرج بن برقوق لم يستقر الأمراء فيما بينهم على من يخلفه على عرش السلطنة ولكنهم اتفقوا مبدئياً ، وكإجراء شكلى علي اختيار الخليفة العباسى المستعين باللّه أبو الفضل سلطاناً على مصر بالإضافة إلى منصب الخلافة إلى أن تستقر الأمور .. وتم بالفعل عزله بعد حوالى خمسة شهور .
- السلطان المؤيد شيخ المحمودى من 815هـ/1412م إلى أن توفى فى 824هـ/1421م وخلفه ابنه أحمد .
* فى ذى الحجة 816هـ/1414م تولى الخلافة أبو الفتح المعتضد الثانى بن المتوكل .
بينما تولى السلطنة فى مصر كل من :
- السلطان أحمد بن المؤيد شيخ 824هـ/1421م تحت وصاية الأمير ططر الذى ما لبث أن انتزع لنفسه .
- السلطان الظاهر سيف الدين ططر بقى سلطاناً 94 يوما ثم خلفه ابنه محمد .
- السلطان ناصر الدين محمد بن ططر تحت وصاية الأمير برسباى الذى انتزع السلطنة لنفسه بعد عدة أشهر.
- السلطان الأشرف سيف الدين برسباى 825هـ/1422م إلى أن توفى فى 841 هـ / 1438م .
- السلطان العزيز جمال الدين يوسف بن برسباى من 841هـ/1438م تحت وصاية الأمير حقمق الذى عزله بعد عدة أشهر وتولى السلطنة لنفسه .
- السلطان الظاهر سيف الدين حقمق 842هـ/1438م إلى أن توفى 857هـ/1453م وأوصى وهو على فراش الموت بالعرش لابنه عثمان .
وفى ربيع الأول 845هـ/1441م تولى الخلافة العباسية فى مصر أبو ربيعة سليمان المستكفى الثانى بن المتوكل ثم فى محرم 855هـ/1451م خلفه أبو بكر القائم بن المتوكل .
وتولى سلطنة مصر :
- السلطان المنصور فخر الدين عثمان بن الظاهر حقمق 857هـ/1453م ولكنه لم يلبث على العرش سوى شهر ونصف حتى خلعه الجيش .
- السلطان الأشرف سيف الدين اينال العلائى الظاهرى الأجرود من 857هـ/1453م إلى 865هـ/1460م .
فى رجب 859هـ/1455م تولى الخلافة العباسية فى مصر أبو المحاسن يوسف المستنجد بن المتوكل .
وتولى السلطنة فى مصر كل من :
- السلطان المؤيد شهاب الدين أحمد بن اينال من 865هـ/1460م لمدة أربعة شهور .
- السلطان الظاهر خشقدم من 865هـ/1461م إلى 872هـ/1467م .
- السلطان سيف الدين يلباى 872هـ/1467م لعدة شهور .
- السلطان الظاهر تمربغا الرومى فى نفس السنة 872هـ/1467م ثم عُزل بعد شهرين .
- السلطان خير بك المشهور بأنه " سلطان ليلة " فقد دبر لعزل السلطان السابق بغية الاستئثار بالعرش لنفسه وفعلا صعد إلى عرش السلطنة أثناء الليل ولقب نفسه بالسلطان الظاهر.. ولكن الأتابك قايتباى أسرع إلى القلعة وسيطر على الموقف وعزل خير بك وتولى السلطنة .
- السلطان الأشرف قايتباى من 872هـ/1468م إلي 901هـ/1496م حيث تنازل عن العرش لابنه محمد وتوفى فى اليوم التالى .
وفى محرم 884هـ/1479م تولى عرش السلطنة العباسية في مصر أبو الأعز عبد العزيز المتوكل الثاني ابن المستعين .
وتولى السلطنة فى مصر كل من :
- السلطان محمد بن الأشرف قايتباى " للمرة الأولى " من 901هـ/1496م إلى 902هـ/1497م .
- السلطان قانصوه خمسمائة لم يبق فى العرش إلا ثلاثة أيام .
- السلطان محمد بن الأشرف قايتباى " الثانية " من 902هـ/1497م إلى 904هـ/1498م .
وفى صفر 903هـ/1497م تولى الخلافة العباسية فى مصر أبو الصبر يعقوب المستمسك بن المتوكل الثاني .
وتولى سلطنة مصر كل من :
- السلطان قانصوه الأشرفى من 904هـ/1498م إلى 905هـ/1500م .
- السلطان جانبلاط من 905هـ/1500م إلى أن اغتيل فى 906هـ/1501م .
- السلطان طومان باى " الأولى " خلال 906هـ/1501م تولى السلطنة لمدة مائة يوم .
- السلطان الأشرف قانصوه الغورى من 906هـ/1501م إلى 922هـ/1516م ويقال أنه توفى عقب هزيمة جيوشه في موقعة مرج دابق التي كانت الفاصلة بين المماليك والعثمانين .
وفي 923هـ/1517م وصل إلى عرش الخلافة العباسية فى مصر أخر الخلفاء العباسيين المتوكل الثالث بن المستمسك بينما كان آخر سلاطين المماليك :
- السلطان طومان باى من 229ه/إلى 1516م إلى 923هـ/1517 م والذى كان نائبا للسلطان الغورى فى القاهرة عند هزيمته فى مرج دابق وتولى عرش مصر إلى أن دخل الجيش العثمانى بعد الهزيمة فى موقعة الريدانية بقيادة طومان باى الذى لم ييأس من المقاومة فى مواقع أخرى صغيرة حتى أعُدم شنقا على باب زويلة .
وصف ابن تغري (النجوم الزاهرة 10/315) السلطان حسن بقوله:
كان سلطاناً شجاعاً مقداماً كريما حازماً مدبراً ذا شهامة وصرامة وهيبة ووقار عالي الهمة كثير الصدقات والبر. ومما يدل على علو همته مدرستة التي أنشأها بالرميلة تجاه قلعة الجبل ، وهي المدرسة التي لم يُبْنَ في الإسلام نظيرها، ولاحكاها معمار في حسن عملها, وهي في الجملة أحسن ما بني في الدنيا شرقا وغر با في معناها بلا مدافعة.
محاصرة قلعة بعلبك من قبل صلاح الدين:
ومن حوادث اليوم الرابع عشر من شره رمضان أن الملك الناصر صلاح الدين وهو يجمع أشلاء الشام المبعثرة بين أيدي ملوك ضعاف ملك قلعتي حمص وبعلبك اللتين تتمتعان بقيمة استراتيجية عالية في الحرب ضد الصليبيين.
يقول ابن الأثير في (الكامل) في حوادث سنة 570هـ (10/66) لما استقر ملك صلاح الدين لدمشق سار إلى مدينة حمص وفي قلعتها والٍ يحفظها. فلما نزل صلاح الدين على حمص راسل من فيها بالتسليم فامتنعوا ، فقاتلهم من الغد فملك البلد وأمّن أهله ، وامتنعت عليه القلعة.
واقتضى الحال أن يترك حمص ويجعل فيها من يحفظها ، ويمنع مَنْ بالقلعة من التصرف أو أن تصعد إليهم ميرة (مؤن) ثم سار إلى حماه فحلب ، ثم عاد أدراجه إلى حمص ثانية سريعاً لملاقاة ملك الفرنجة الداهية ريموند الذي أراد استغلال غياب صلاح الدين لاحتلال حمص.
فلما وصل صلاح الدين إلى الرستن وسمع الفرنجة بقدومه رحلوا عن حمص، ووصل إليها صلاح الدين فأعاد حصار القلعة ثانية إلى أن ملكها ثم سار منها إلى بعلبك وبها والٍ اسمه يمن ، فحاصرها وتسلم القلعة وذلك رابع عشر من رمضان من سنة 570هـ.
فتح أنطاكية وأخذها من الصليبيين:
ومن حوادث اليوم الرابع عشر من شهر رمضان أن الملك الظاهر بيبرس فتح أنطاكية التي دخلها المسلمون أكثر من مرة
وكانت تنتقل إلى أيدي الروم أو الصليبيين أو غيرهم مرات عديدة حتى يقيض الله لها من يعيد فتحها.
قال ابن كثر في (البداية 13/251) في حوادث سنة 666هـ :
ـ أنطاكية مدينة عظيمة كثيرة الخير، يقال: إن دور سورها إثنا عشر ميلا، وعدد بروجها مائة وستة وثلاثون برجاً. كان نزول الملك الظاهر عليها في مستهل شهر رمضان ، فخرج إليه أهلها يطلبون منه الأمان، وشرطوا له شروطاً عليهم، فأبى أن يجيبهم وردهم خائبين ، وصمم على حصارها ففتحها يوم السبت رابع عشر رمضان بحول الله وقوته وتاييده ونصره ، وغنم منها شيئاً كثيراً وأطلق للأمراء أموالاً جزيلة ، ووجد من أسارى المسلمين من الحلبيين فيها خلقاً كثيراً. كل هذا في مقدار أربعة أيام .
وقد كان (الاغريس) صاحب انطاكية من أشد الناس أذية للمسلمين حين ملك التتار حلب وفر الناس منها فانتقم الله سبحانه منه.
ما إن جلس بيبرس على سدة الحكم في مصر حتى قضى على الفتن والثورات التي اشتعلت ضده، وقام بتنظيم شؤون دولته، وسعى لإيجاد سند شرعي تُحكم دولة المماليك باسمه، فأحيا الخلافة العباسية في القاهرة، واستقدم أحد الناجين من أسرة العباسيين بعد مذبحة هولاكو في بغداد، ويدعى أبا العباس أحمد، وعقد مجلسًا في القلعة في (8 من لمحرم 661هـ = 22 من نوفمبر 661م) حضره قاضي القضاة وكبار العلماء والأمراء، وقرأ نسب الخليفة على الحاضرين بعدما ثبت عند القاضي، ولُقِّب الخليفة بالحاكم بأمر الله، وقام بيبرس بمبايعته على العمل بكتاب الله وسنة رسوله، ولما تمت البيعة أقبل الخليفة على بيبرس وقلده أمور البلاد والعباد.
وسبق لنا أن تناولنا موضوع إحياء الخلافة العباسية في شيء من التفصيل في يوم (التاسع من المحرم).
وسعى بيبرس إلى تقوية الجيش وإمداده بما يحتاج من السلاح والعتاد، وأولى عناية بالأسطول ودور صناعة السفن المصرية في الفسطاط والإسكندرية ودمياط. وعمل على تحصين مناطق الحدود، وتنظيم وسائل الاتصال ونقل المعلومات من خلال نظام البريد. ولما اطمأن إلى ذلك قام بمواجهة القوى المتربصة بالإسلام وفي مقدمتها الصليبيون.
الصليبيون في الشام
لم يتجه "لويس التاسع" بعد إطلاق سراحه من مصر إلى فرنسا. وإنما اتجه إلى "عكا"، وكانت حملته الصليبية قد مُنيت بهزيمة مروعة في معركة المنصورة في (3 من المحرم 648هـ = إبريل 1250م) فقد فيها زهرة جنده، وأصيب الصليبيون بكارثة كبرى ظل أثرها المروع مستعصيًا على العلاج والإصلاح، وسبق لنا أن تناولناها على نحو من التفصيل في ذكرى وقوعها في الثالث من المحرم.
وقضى لويس التاسع في الإمارات الصليبية بالشام أربع سنوات يحاول جاهدًا تصفية الخلافات بين أمراء الصليبيين، والمحافظة على كياناتهم، وتنظيم الدفاع عن إماراتهم الصليبية، فعني بتحصين عكا وحيفا وقيسارية ويافا، وعمل على إعادة الصلح بين إمارة إنطاكية وأرمينية وسعى لإقامة حلف مع المغول، غير أن مسعاه لم يكلل بالنجاح، ثم غادر عكا عائدًا إلى بلاده في (5 من ربيع الأول 625هـ = 25 من إبريل 1254م).
ولم يكد لويس التاسع يرحل عن الشام حتى دبت المنازعات بينهم من جديد، وتصاعد الصراع بينهم إلى حد القتال، ولم يجدوا كبيرًا ينطوون تحت لوائه، فسادت أوضاعهم في الوقت الذي دولة المماليك بدأت في البروز بعد انتصارها العظيم في عين جالوت.
مقدمات الفتح الإسلامي
وكانت الفترة التي تلت رحيل لويس التاسع إلى أن تولى بيبرس سلطنة مصر والشام فترة هدوء ومسالمة بين الصليبيين والمسلمين لانشغال كل منهما بأموره الداخلية، على أن هذه السياسة المسالمة تحولت إلى ثورة وشدة من قبل المماليك بعد أن أخذ الصليبيون يتعاونون مع المغول ضد المماليك، ويعملون مرشدين لجيوشهم، ولم يقتصر الأمر على هذا بل استقبلت بعض الإمارات الصليبية قوات مغولية في حصونها.
وقد أصبح على المماليك أن يدفعوا هذا الخطر الداهم، وبدلاً من أن يواجهوا عدوًا واحدًا، تحتم عليهم أن يصطدموا مع المغول والصليبيين معًا، وكان بيبرس بشجاعته وسياسته قد ادخرته الأقدار لمثل هذه الفترات التاريخية الحرجة من تاريخ الأمة، فكان على قدر المسؤولية، وحقق ما عجز عشرات القادة الأكفاء عن تحقيقه.
وبدأت عمليات بيبرس العسكرية ضد الصليبيين في سنة (663هـ = 1265م)، فتوجه في (4 من ربيع الآخر 663هـ) إلى الشام، فهاجم "قيسارية" وفتحها عنوة في (8 من جمادى الأولى)، ثم عرج إلى أرسوف، ففتحها في شهر رجب من السنة نفسها.
وفي السنة التالية استكمل بيبرس ما بدأ، ففتح قلعة "صفد"، وكانت معقلاً من معاقل الصليبيين، وكان بيبرس يقود جيشه بنفسه، ويقوم ببعض الأعمال مع الجنود إثارة لحميتهم فيجر معهم الأخشاب مع البقر لبناء المجانيق اللازمة للحصار. وأصاب سقوط صفد الصليبيين بخيبة أمل، وحطم معنوياتهم؛ فسارعت بعض الإمارات الصليبية إلى طلب الصلح وعقد الهدنة.
الطريق إلى إنطاكية
تطلع بيبرس إلى الاستيلاء على إنطاكية التي تحتل مكانة خاصة لدى الصليبيين لمناعة حصونها، وتحكمها في الطرق الواقعة في المناطق الشمالية للشام، وكانت ثاني إمارة بعد الرها يؤسسها الصليبيون في أثناء حملتهم الأولى على الشام، وظلوا يسيطرون عليها مائة وسبعين عامًا.
وكان بيبرس قد استعد لهذه الموقعة الحاسمة خير استعداد، ومهد لسقوط الإمارة الصليبية بحملاته السابقة حتى جعل من إنطاكية مدينة معزولة، مغلولة اليد، محرومة من كل مساعدة ممكنة، فخرج من مصر في (3 من جمادى الآخرة 666هـ = 19 من فبراير 1268م)، ووصل إلى غزة، ومنها إلى "يافا" فاستسلمت له، ثم نجح في الاستيلاء على "شقيف أرنون" بعد حصار بدأه في (19 من رجب 666هـ = 5 من إبريل 1268م)، وبفتح يافا وشقيف، لم يبق للصليبيين جنوبي عكا التي كانت بأيديهم سوى قلعة عتليت.
ثم رحل بيبرس إلى طرابلس، فوصلها في (15 من شعبان 666هـ = 30 من إبريل 1268م) فأغار عليها وقتل كثيرًا من حاميتها، وقطع أشجارها وغور مياهها، ففزعت الإمارات الصليبية، وتوافد على بيبرس أمراء أنطرسوس وحصن الأكراد طلبًا للأمن والسلام، وبهذا مهد الطريق للتقدم نحو إنطاكية.
فتح إنطاكية
رحل بيبرس من طرابلس في (24 من شعبان 666هـ = 9 من مايو 1268م) دون أن يطلع أحدًا من قادته على وجهته، واتجه إلى حمص، ومنها إلى حماة، وهناك قسّم جيشه ثلاثة أقسام، حتى لا يتمكن الصليبيون من معرفة اتجاهه وهدفه، فاتجهت إحدى الفرق الثلاث إلى ميناء السويدية لتقطع الصلة بين إنطاكية والبحر، وتوجهت الفرقة الثانية إلى الشمال لسد الممرات بين قلقلية والشام لمنع وصول إمدادات من أرمينية الصغرى.
أما القوة الرئيسية وكانت بقيادة بيبرس فاتجهت إلى إنطاكية مباشرة، وضرب حولها حصارًا محكمًا في (أول رمضان سنة 666هـ = 15 من مايو 1268م)، وحاول بيبرس أن يفتح المدينة سلمًا، لكن محاولاته تكسرت أمام رفض الصليبيين التسليم، فشن بيبرس هجومه الضاري على المدينة، وتمكن المسلمون من تسلق الأسوار في (الرابع من رمضان)، وتدفقت قوات بيبرس إلى المدينة دون مقاومة، وفرت حاميتها إلى القلعة، وطلبوا من السلطان الأمان، فأجابهم إلى ذلك، وتسلم المسلمون القلعة في (5 من رمضان 666هـ = 18 من مايو 1268م) وأسروا من فيها.
وقد غنم المسلمون غنائم كثيرة، بلغ من كثرتها أن قسمت النقود بالطاسات، وبلغ من كثرة الأسرى "أنه لم يبق غلام إلا وله غلام، وبيع الصغير من الصليبيين باثني عشر درهمًا، والجارية بخمسة دراهم".
نتائج الفتح
كان سقوط إنطاكية أعظم فتح حققه المسلمون على الصليبيين بعد استرداد صلاح الدين الأيوبي لبيت المقدس، وفي الوقت نفسه كان كارثة كبرى ألمت بالصليبيين وزلزلت كيانهم، ومن طرائف الفتح أن بوهيمند السادس أمير إنطاكية لم يعلم ما حدث لها؛ إذ كان في إمارته الثانية طرابلس جنوبي إنطاكية، فتكفل بيبرس بإخباره بهذه الكارثة في رسالة ساخرة بعثها إليه من إنشاء الكاتب البليغ "ابن عبد الظاهر"، ومما جاء فيها:
".. وكتابنا هذا يتضمن البشر لك بما وهبك الله من السلامة وطول العمر بكونك لم تكن لك في هذه المدة بإنطاكية إقامة، فلو كنت بها كنت إما قتيلاً وإما أسيرًا، وإما جريحًا وإما كسيرًا...".
وبينما كان بيبرس في إنطاكية وصل إليه رسل الملك هيثوم الأرميني يعرضون عليه اتفاق بمقتضاه يعيدون ما أخذوه من المدن الإسلامية في أثناء الغزو المغولي للشام، مثل بهنسا، ومرزبان، ورعبان، كما ترك الداوية من الصليبيين "حصن بغراس"، وبذلك عاد شمال الشام إلى حوزة المسلمين.
وبهذا النصر الذي فتح الباب لسقوط الإمارات الصليبية الباقية تبوأ بيبرس مكانته التاريخية، باعتباره واحدًا من أبطال الإسلام.
من مصادر الدراسة:
• ابن عبد الظاهر– الروض الزاهر في سير الملك الظاهر– تحقيق عبد العزيز الخويطر– الرياض– (1396-1976م).
• ابن أيبك الدواداري – كنز الدرر وجامع الغرر– المجلد الثامن– تحقيق أولرخ هارمان– المعهد الألماني للآثار بالقاهرة – (1391هـ-1971م).
• حسين محمد عطية– إمارة إنطاكية الصليبية والمسلمون– دار المعرفة الجامعية– الإسكندرية– 1989م.
• سعيد عبد الفتاح عاشور– الحركة الصليبية– مكتبة الأنجلو المصرية– القاهرة– 1986م.
• أحمد مختار العبادي– قيام دولة المماليك الأولى– دار النهضة العربية– بيروت– 1969م.
• قاسم عبده قاسم– عصر سلاطين المماليك– عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية– القاهرة– 1998م.
استحداث بدعة التكبير بعد الصلوات الخمس:
ومما ذكر من حوادث اليوم الرابع عشر لشهر رمضان ما جاء في حوادث سنة 215هـ أيام الخليفة المأمون العباسي
قال ابن كثير (البداية 10/270) وفي هذه السنة كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد يأمره أن يأمر الناس بالتكبير عقيب الصلوات الخمس ، فكان أول ما بدئ بذلك في جامع بغداد والرصافة يوم الجمعة لأربع عشر ليلة خلت من رمضان. وذلك أنهم كانوا إذا قضوا الصلاة قام الناس قياماً ، فكبروا ثلاث تكبيرات ثم استمروا على ذلك في بقية الصلوات.
وهذه بدعة أحدثها المأمون أيضاً بلا مستند ولا دليل ولا معتمد ، فإن هذا لم يفعله أحد قبله. ولكن ثبت في الصحيح عن ابن عباس أن رفع الصوت بالذكر كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلم حين ينصرف الناس من المكتوبة وقد استحب هذا طائفة من العلماء كابن حزم وغيره.. وأما هذه البدعة التي أمر بها المأمون فإنها بدعة محدثة لم يعمل بها أحد من السلف.
وفاة الملك كوجك ملك إربل
ومن حوادث اليوم الرابع عشر من رمضان وفاة الملك زين الدين علي كوجك صاحب أربل سنة (630هـ).
قال الذهبي في (سير أعلام النبلاء 22/334) وصف بالشجاعة المفرطة وكان يحب الصدقة حباً جماً، له كل يوم قناطير خبز يفرقها ويكسو في العام خلقاً ويعطيهم دنانير، وبنى أربع خوانك (ملاجئ أو مراكز) للزمنى والأضراء (العميان) وكان يأتيهم كل اثنين وخميس ويسأل كل واحد عن حاله ويتفقده ويباسطه ويمزح معه، وبنى داراً للنساء، وداراً للأيتام، وداراً للقطاء، ورتب بها المواضع، وكان يدور على مرضى البيمارستان، وله دار مضيف ينزلها كل وارد ويعطى كل ما ينبغي له ، وبنى مدرسة للشافعية والحنفية وكان يمد بها السماط، ويحضر السماع كثيراً ، وكان يمنع دخول أي منكر بلده ، وبنى للصوفية رباطين، وكان ينزل إليهم لأجل السماعات, وكان في السنة يفتكّ أسرى بالجملة, ويخرج سبيلاً للحج، ويبعث للمجاورين بخمسة آلاف دينار, وأجرى الماء إلى عرفات .
وأما احتفاله بالمولد (النبوي) فيقصر التعبير عنه: كان الخلق يقصدونه من العراق والجزيرة، وتنصب قباب خشب له ولأمرائه وتزين, ويخرج من البقر والغنم والإبل شيئاً كثيراً فتنحر، وتطبخ الألوان ويتكلم الوعاظ في الميدان.
وكان متواضعاً خيراً سنياً يحب الفقهاء والمحدثين ، وما نقل أنه انهزم في حرب.
قال ابن خلكان (الذهبي، سير أعلام النبلاء 22/337): مات ليلة الجمعة رابع عشر من رمضان سنة ثلاثين وستمائة للهجرة، وعمل له تابوت وحمل مع الحجاج إلى مكة ، فاتفق أن الوفد رجعوا تلك السنة لعدم الماء ، فدفن بالكوفة رحمه الله تعالى.
بدء الحرب العالمية الأولى:
ومن حوادث اليوم الرابع عشر من شهر رمضان بدء الحرب العالمية الأولى عام 1331 هـ.
وذلك عندما تهيأت الظروف الدولية والإقليمية لنشوب حرب عالمية كونية بين الدول الأوروبية عقب اغتيال طالب صربي متطرف لولي عهد النمسا الأرشيدق فرانز فردينا وزوجته في سراييفو ، فانتهزت النمسا هذا الحادث وأعلنت الحرب ضد صربيا التي شعرت روسيا بمسؤوليتها تجاهها ، فقامت تنافح عنها رافضة الإنذار الألماني بوقف التعبئة والاستعداد.
وهكذا تدخلت فرنسا صديقة روسيا ضد المانيا ، مما حدا بألمانيا إلى غزو فرنسا عن طريق اختراق بلجيكا ولوكمسبورغ يوم 41 أغسطس 4191م الموافق 14 رمضان 1332...
وكانت نتيجة الحرب الكونية الأولى التي اشتركت فيها ثلاثون دولة ، ضحايا يبلغون عشرة ملايين من العسكر قتلى، و21 مليوناً جريحاً ، قبل توقيع الهدنة التي أنهت الحرب في 6 صفر 1337هـ الموافق 11 نوفمبر 1918م.
الفراغ من تأليف كتاب رياض الصالحين
وفي الرابع عشر من رمضان سنة 670هـ اكتمل عقد كتاب عظيم النفع كبير الفائدة.
قال الإمام يحيى بن شرف بن مري أبو زكريا النووي الدمشقي المولود في قرية نوى من أعمال حوران قرب دمشق والمتوفى فيها سنة 676هـ قال عن كتابه الفذ (رياض الصالحين) رأيت أن أجمع مختصراً من الأحاديث الصحيحة مشتملاً على ما يكون طريقاً لصاحبه إلى الآخرة ومحصلاً لآدابه الباطنة ثم قال في آخره : فرغت منه يوم الاثنين رابع عشر رمضان سنة سبعين وستمائة.
الإمام النووي هو الإِمام الحافظ شيخ الإسلام محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف بن مُرِّي بن حسن بن حسين بن محمد بن جمعة بن حِزَام، النووي نسبة إلى نوى، وهي قرية من قرى حَوْران في سورية، ثم الدمشقي الشافعي، شيخ المذاهب وكبير الفقهاء في زمانه.
ولد النووي رحمه اللّه تعالى في المحرم 631 هـ في قرية نوى من أبوين صالحين، ولما بلغ العاشرة من عمره بدأ في حفظ القرآن وقراءة الفقه على بعض أهل العلم هناك، وصادف أن مرَّ بتلك القرية الشيخ ياسين بن يوسف المراكشي، فرأى الصبيانَ يُكرِهونه على اللعب وهو يهربُ منهم ويبكي لإِكراههم ويقرأ القرآن، فذهب إلى والده ونصحَه أن يفرّغه لطلب العلم، فاستجاب له.
وفي سنة 649 هـ قَدِمَ مع أبيه إلى دمشق لاستكمال تحصيله العلمي في مدرسة دار الحديث، وسكنَ المدرسة الرواحية، وهي ملاصقة للمسجد الأموي من جهة الشرق.
وفي عام 651 هـ حجَّ مع أبيه ثم رجع إلى دمشق.
أجمعَ أصحابُ كتب التراجم أن النووي كان رأساً في الزهد، وقدوة في الورع، وعديم النظير في مناصحة الحكام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويطيب لنا في هذه العجالة عن حياة النووي أن نتوقف قليلاً مع هذه الصفات المهمة في حياته:
تفرَّغَ الإِمام النووي من شهوة الطعام واللباس والزواج، ووجد في لذّة العلم التعويض الكافي عن كل ذلك. والذي يلفت النظر أنه انتقل من بيئة بسيطة إلى دمشق حيث الخيرات والنعيم، وكان في سن الشباب حيث قوة الغرائز، ومع ذلك فقد أعرض عن جميع المتع والشهوات وبالغ في التقشف وشظف العيش.
وفي حياته أمثلة كثيرة تدلُّ على ورع شديد، منها أنه كان لا يأكل من فواكه دمشق، ولما سُئل عن سبب ذلك قال: إنها كثيرة الأوقاف، والأملاك لمن تحت الحجر شرعاً، ولا يجوز التصرّف في ذلك إلا على وجه الغبطة والمصلحة، والمعاملة فيها على وجه المساقاة، وفيها اختلاف بين العلماء.ومن جوَّزَها قال: بشرط المصلحة والغبطة لليتيم والمحجور عليه، والناس لا يفعلونها إلا على جزء من ألف جزء من الثمرة للمالك، فكيف تطيب نفسي؟. واختار النزول في المدرسة الرواحيّة على غيرها من المدارس لأنها كانت من بناء بعض التجّار.
وكان لدار الحديث راتب كبير فما أخذ منه فلساً، بل كان يجمعُها عند ناظر المدرسة، وكلما صار له حق سنة اشترى به ملكاً ووقفه على دار الحديث، أو اشترى كتباً فوقفها على خزانة المدرسة، ولم يأخذ من غيرها شيئاً. وكان لا يقبل من أحد هديةً ولا عطيّةً إلا إذا كانت به حاجة إلى شيء وجاءه ممّن تحقق دينه. وكان لا يقبل إلا من والديه وأقاربه، فكانت أُمُّه ترسل إليه القميص ونحوه ليلبسه، وكان أبوه يُرسل إليه ما يأكله، وكان ينام في غرفته التي سكن فيها يوم نزل دمشق في المدرسة الرواحية، ولم يكن يبتغي وراء ذلك شيئاً.
لقد توفرت في النووي صفات العالم الناصح الذي يُجاهد في سبيل اللّه بلسانه، ويقوم بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو مخلصٌ في مناصحته وليس له أيّ غرض خاص أو مصلحة شخصية، وشجاعٌ لا يخشى في اللَّه لومة لائم، وكان يملك البيان والحجة لتأييد دعواه.
وكان الناسُ يرجعون إليه في الملمّات والخطوب ويستفتونه، فكان يُقبل عليهم ويسعى لحلّ مشكلاتهم، كما في قضية الحوطة على بساتين الشام:
لما ورد دمشقَ من مصرَ السلطانُ الملكُ الظاهرُ بيبرسُ بعد قتال التتار وإجلائهم عن البلاد، زعم له وكيل بيت المال أن كثيراً من بساتين الشام من أملاك الدولة، فأمر الملك بالحوطة عليها، أي بحجزها وتكليف واضعي اليد على شيءٍ منها إثبات ملكيته وإبراز وثائقه، فلجأ الناس إلى الشيخ في دار الحديث، فكتب إلى الملك كتاباً جاء فيه "وقد لحق المسلمين بسبب هذه الحوطة على أملاكهم أنواعٌ من الضرر لا يمكن التعبير عنها، وطُلب منهم إثباتٌ لا يلزمهم، فهذه الحوطة لا تحلّ عند أحد من علماء المسلمين، بل مَن في يده شيء فهو ملكه لا يحلّ الاعتراض عليه ولايُكلَّفُ إثباته" فغضب السلطان من هذه الجرأة عليه وأمر بقطع رواتبه وعزله عن مناصبه، فقالوا له: إنه ليس للشيخ راتب وليس له منصب. لما رأى الشيخ أن الكتاب لم يفِدْ، مشى بنفسه إليه وقابله وكلَّمه كلاماً شديداً، وأراد السلطان أن يبطشَ به فصرف اللَّه قلبَه عن ذلك وحمى الشيخَ منه، وأبطلَ السلطانُ أمرَ الحوطة وخلَّصَ اللَّه الناس من شرّها
تميزت حياةُ النووي العلمية بعد وصوله إلى دمشق بثلاثة أمور: الأول: الجدّ في طلب العلم والتحصيل في أول نشأته وفي شبابه، وقد أخذ العلم منه كلَّ مأخذ، وأصبح يجد فيه لذة لا تعدِلُها لذة، وقد كان جادّاً في القراءة والحفظ، وقد حفظ التنبيه في أربعة أشهر ونصف، وحفظ ربع العبادات من المهذب في باقي السنة، واستطاع في فترة وجيزة أن ينال إعجاب وحبَّ أستاذه أبي إبراهيم إسحاق بن أحمد المغربي، فجعلَه مُعيد الدرس في حلقته. ثم درَّسَ بدار الحديث الأشرفية، وغيرها. الثاني: سعَة علمه وثقافته، وقد جمع إلى جانب الجدّ في الطلب غزارة العلم والثقافة المتعددة، وقد حدَّثَ تلميذُه علاء الدين بن العطار عن فترة التحصيل والطلب، أنه كان يقرأ كلََّ يوم اثني عشر درساً على المشايخ شرحاً وتصحيحاً، درسين في الوسيط، وثالثاً في المهذب، ودرساً في الجمع بين الصحيحين، وخامساً في صحيح مسلم، ودرساً في اللمع لابن جنّي في النحو، ودرساً في إصلاح المنطق لابن السكّيت في اللغة، ودرساً في الصرف، ودرساً في أصول الفقه، وتارة في اللمع لأبي إسحاق، وتارة في المنتخب للفخر الرازي، ودرساً في أسماء الرجال، ودرساً في أصول الدين، وكان يكتبُ جميعَ ما يتعلق بهذه الدروس من شرح مشكل وإيضاح عبارة وضبط لغة. الثالث: غزارة إنتاجه، اعتنى بالتأليف وبدأه عام 660 هـ، وكان قد بلغ الثلاثين من عمره، وقد بارك اللّه له في وقته وأعانه، فأذاب عُصارة فكره في كتب ومؤلفات عظيمة ومدهشة، تلمسُ فيها سهولةُ العبارة، وسطوعَ الدليل، ووضوحَ الأفكار، والإِنصافَ في عرض آراء الفقهاء، وما زالت مؤلفاته حتى الآن تحظى باهتمام كل مسلم، والانتفاع بها في سائر البلاد. ويذكر الإِسنوي تعليلاً لطيفاً ومعقولاً لغزارة إنتاجه فيقول: اعلم أن الشيخ محيي الدين رحمه اللّه لمّا تأهل للنظر والتحصيل، رأى أن من المسارعة إلى الخير؛ أن جعل ما يحصله ويقف عليه تصنيفاً ينتفع به الناظر فيه، فجعل تصنيفه تحصيلاً، وتحصيله تصنيفاً، وهو غرض صحيح وقصد جميل، ولولا ذلك لما تيسر له من التصانيف ما تيسر له".
ومن أهم كتبه
"شرح صحيح مسلم" و"المجموع" شرح المهذب، و"رياض الصالحين" و"تهذيب الأسماء واللغات"، والروضة روضة الطالبين وعمدة المفتين"، و"المنهاج في الفقه" و"الأربعين النووية" و"التبيان في آداب حَمَلة القرآن" و"الأذكار "حلية الأبرار وشعار الأخيار في تلخيص الدعوات والأذكار المستحبّة في الليل والنهار"، و"الإِيضاح" في المناسك.
من شيوخه في الفقه:
عبد الرحمن بن إبراهيم بن سباع الفزاري، تاج الدين، عُرف بالفِرْكاح، توفي سنة 690 هـ. 3. إسحاق بن أحمد المغربي، الكمال أبو إبراهيم، محدّث المدرسة الرواحيّة، توفي سنة 650 هـ. 4. عبد الرحمن بن نوح بن محمد بن إبراهيم بن موسى المقدسي ثم الدمشقي، أبو محمد، مفتي دمشق، توفي سنة 654 هـ. 5. سلاَّر بن الحسن الإِربلي، ثم الحلبي، ثم الدمشقي، إمام المذهب الشافعي في عصره، توفي سنة 670 هـ.
ومن شيوخه في الحديث:
إبراهيم بن عيسى المرادي، الأندلسي، ثم المصري، ثم الدمشقي، الإِمام الحافظ، توفي سنة 668 هـ. 2. خالد بن يوسف بن سعد النابلسي، أبو البقاء، زين الدين، الإِمام المفيد المحدّث الحافظ، توفي سنة 663 هـ. 3. عبد العزيز بن محمد بن عبد المحسن الأنصاري، الحموي، الشافعي، شيخ الشيوخ، توفي سنة 662 هـ. 4. عبد الرحمن بن أبي عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قُدامة المقدسي، أبو الفرج، من أئمة الحديث في عصره، توفي سنة 682 هـ. 5. عبد الكريم بن عبد الصمد بن محمد الحرستاني، أبو الفضائل، عماد الدين، قاضي القضاة، وخطيب دمشق. توفي سنة 662 هـ. 6. إسماعيل بن أبي إسحاق إبراهيم بن أبي اليُسْر التنوخي، أبو محمد تقي الدين، كبير المحدّثين ومسندهم، توفي سنة 672 هـ. 7. عبد الرحمن بن سالم بن يحيى الأنباري، ثم الدمشقي الحنبلي، المفتي، جمال الدين. توفي سنة 661 هـ. 8. ومنهم: الرضي بن البرهان، وزين الدين أبو العباس بن عبد الدائم المقدسي، وجمال الدين أبو زكريا يحيى بن أبي الفتح الصيرفي الحرّاني، وأبو الفضل محمد بن محمد بن محمد البكري الحافظ، والضياء بن تمام الحنفي، وشمس الدين بن أبي عمرو، وغيرهم من هذه الطبقة.
ومن شيوخه في علم الأصول
أما علم الأصول، فقرأه على جماعة، أشهرهم: عمر بن بندار بن عمر بن علي بن محمد التفليسي الشافعي، أبو الفتح. توفي سنة 672 هـ.
شيوخه في النحو واللغة
وأما في النحو واللغة، فقرأه على: الشيخ أحمد بن سالم المصري النحوي اللغوي، أبي العباس، توفي سنة 664 هـ.والفخر المالكي.والشيخ أحمد بن سالم المصري.
مسموعاته
سمع النسائي، وموطأ مالك، ومسند الشافعي، ومسند أحمد بن حنبل، والدارمي، وأبي عوانة الإِسفراييني، وأبي يعلى الموصلي، وسنن ابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي، وشرح السنّة للبغوي، ومعالم التنزيل له في التفسير، وكتاب الأنساب للزبير بن بكار، والخطب النباتية، ورسالة القشيري، وعمل اليوم والليلة لابن السني، وكتاب آداب السامع والراوي للخطيب البغدادي، وأجزاء كثيرة غير ذلك.
تلاميذه
وكان ممّن أخذ عنه العلم: علاء الدين بن العطار، وشمس الدين بن النقيب، وشمس الدين بن جَعْوان، وشمس الدين بن القمَّاح، والحافظ جمال الدين المزي، وقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، ورشيد الدين الحنفي، وأبو العباس أحمد بن فَرْح الإِشبيلي، وخلائق.
وَفَاته
وفي سنة 676 هـ رجع إلى نوى بعد أن ردّ الكتب المستعارة من الأوقاف، وزار مقبرة شيوخه، فدعا لهم وبكى، وزار أصحابه الأحياء وودّعهم، وبعد أن زار والده زار بيت المقدس والخليل، وعاد إلى نوى فمرض بها وتوفي في 24 رجب. ولما بلغ نعيه إلى دمشق ارتجّت هي وما حولها بالبكاء، وتأسف عليه المسلمون أسفاً شديداً، وتوجّه قاضي القضاة عزّ الدين محمد بن الصائغ وجماعة من أصحابه إلى نوى للصلاة عليه في قبره، ورثاه جماعة، منهم محمد بن أحمد بن عمر الحنفي الإِربلي، وقد اخترت هذه الأبيات من قصيدة بلغت ثلاثة وثلاثين بيتاً:
عزَّ العزاءُ وعمَّ الحــادث الجلــل *** وخاب بالموت في تعميرك الأمل
واستوحشت بعدما كنت الأنيـس لهـا *** وساءَها فقدك الأسحارُ والأصـلُ
وكنت للدين نوراً يُستضاء به مسـدَّد *** منـك فيــه القولُ والعمــلُ
زهدتَ في هــذه الدنيا وزخرفـها *** عزماً وحزماً ومضروب بك المثل
أعرضت عنها احتقاراً غير محتفل *** وأنت بالسعـي في أخـراك محتفل
وهكذا انطوت صفحة من صفحات عَلَمٍ من أعلاَم المسلمين، بعد جهاد في طلب العلم، ترك للمسلمين كنوزاً من العلم، لا زال العالم الإسلامي يذكره بخير، ويرجو له من اللَّه تعالى أن تناله رحماته ورضوانه.
رحم اللّه الإِمام النووي رحمة واسعة، وحشره مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، وجمعنا به تحت لواء سيدنا محمد صلى اللّه عليه وسلم.
ـــــــــــــــ
(1) مستقاة بتصرف من مقدمة كتاب الأذكار والمصادر التالية:
) طبقات السبكي 8/395ـ 400، وتذكرة الحفاظ 4/1470 ـ 1474، والبداية والنهاية 13/278، ومعجم المؤلفين 13/202، و"الاهتمام بترجمة الإِمام النووي شيخ الإِسلام للسخاوي، والنووي؛ للشيخ علي الطنطاوي والإِمام النووي للشيخ عبد الغني الدقر. والمنهاج السوي في ترجمة محيي الدين النووي للسيوطي. طبعة دار التراث الأولى 1409 هـ تحقيق: د. محمد العيد الخطراوي.
وفاة مظفر الدين كوكبوري:
في 14 من رمضان 630ه ـالموافق 24 من يونيو 1233م: توفى مظفر الدين كوكبوري، أمير إربل، واحد من كبار القادة الذين شاركوا صلاح الدين الأيوبي في جهاده ضد الصليبيين، وسبق أن تناولنا ترجمته في ذكرى مولده 27 من المحرم 549م تحت عنوان "الأمير الفارس والحاكم الإنسان".
وضع حجر الأساس للجامع الأزهر:
في الرابع عشر من شهر رمضان عام 359هـ الموافق 20 يوليو 970م وضع حجر الأساس والبدء في بناء الجامع الأزهر بالقاهرة ، وتم بناؤه في حوالي سنتين تقريبًا.
يرجع الفضل في تأسيس الجامع الأزهر إلى الفاطميين، الذين فتحوا مصر في عهد الخليفة المعز لدين الله، الذي أرسل قائده جوهر الصقلى لفتح مصر، فسار بحملته حتى دخل الفسطاط في يوم 11 من شعبان سنة 358 هـ /يوليه 969م، ووضع أساس مدينة القاهرة في يوم 17 من شعبان سنة 358 هـ كما وضع أساس قصر للخليفة المعز لدين اللَّه، ثم وضع آساس الجامع الأزهر في يوم 14 من شعبان سنة 359هـ / 970م ، واستغرق بناؤه قرابة سنتين، وأقيمت أول صلاة جمعة فيه في السابع من رمضان سنة 361 هـ / 972م.
ولم يلبث الأزهر الشريف أن أصبح جامعة علوم، يتلقى فيه طلاب العلم مختلف المعارف والفنون، ففي سنة 378هـ / 988م أشار البعض على الخليفة العزيز بالله بتحويل الأزهر الشريف إلى جامعة تدرس فيها العلوم الدينية والعقلية حرصاً على جذب طلاب العلم إليه من كافة الأقطار. وقد سمي بالجامع الأزهر نسبة إلى السيدة فاطمة الزهراء التي ينتسب إليها الفاطميون.
وقد حرص الخلفاء الفاطميون على تزويد الجامع الأزهر بالكثير من الكتب والمراجع حتى يتيسر للطلاب الوافدين عليه الإطلاع عليها، كما حرصوا على تخصيص موارد للإنفاق عليه، فوقفوا عليه الأحباس، وحذا حذوهم كثير من العظماء والأثرياء من أهل الخيرمن مختلف الدول، فأنفقوا على فرشه وإنارته وتنظيفه وإمداده بالماء، وعلى رواتب الخطباء والمشرفين والأئمة والطلاب من مختلف المذاهب الفقهية.
ولقد اضطلع الأزهر الشريف -منذ فجر تاريخه- بأدوار سياسية وثقافية وروحية خالدة، ليس في تاريخ مصر فحسب، بل في تاريخ الأمم الإسلامية والعربية على مر العصور.
فقد كان للأزهر دور سياسي مجيد على مر تاريخه دفع فيه الظلم والجور وأقر العدل ونشر الأمان، فكان ملاذاً لعامة الشعب يهرعون إليه في الأزمات. ملتمسين من علمائه الإرشاد والتوجيه فيجدون لديهم مواطن الأمان وتفريج الكربات وحل الأزمات، وكان العامة إذا وقع عليهم ظلم أو اغتصب الأمراء المستبدون حقوقهم، هرعوا جماعات إلى الجامع الأزهر في هتاف وصياح، فيفض العلماء حلقات الدراسة ويغلقون أبواب الأزهر ويستمعون إلى شكاية المستغيثين، ونضرب لهذا مثلا ماذكره الجبرتي المؤرخ المشهور أن حسين بك المعروف بـ "شفت" أحد أمراء المماليك، وكان طاغية جباراً يصادر أموال الرعية ويتهجم على البيوت ، وأنه ذهب إلى بيت أحمد سالم الجزار، شيخ دراويش البيومي، فنهب مافيه حتى الفرش وحلي النساء، فحضر أهل الحسينية إلى الجامع الأزهر، ومعهم الطبول والتف حولهم العامة وبأيديهم العصيّ ، وتفرقوا في أنحاء الأزهر وأغلقوا أبوابه وصعد بعضهم إلى مآذنه يصيحون ويضربون الطبول.. .. وقابلوا الشيخ الدردير وذكروا له ما حدث، فغضب لحرمات الله وقال لهم :"في غد نجمع الأطراف والحارات وبولاق ومصر القديمة وأركب معكم وننهب بيوت المماليك كما ينهبون بيوتنا، ونموت شهداء أو ينصرنا الله عليهم، فارتاع المماليك وأوفدوا رسلهم إل الشيخ الدردير نادمين طالبين إليه أن يرسل قائمة بما نهبه حسين بك وجنوده ليردوه إليه، وفعلا ردوا إليه جميع ما أغتصبوه".
وكثيرا ما كانوا يلفتون نظر الحكام إلى أن طاعة الحاكم واجبة إذا لم يخالف الشرع، وأن قاعدة الحكومة الإسلامية أنه "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"، وفي أحد المواقف صب الشيخ "علي الصعيدي" غضبه على الأمير يوسف بك الكبير -في وجهه- ، ولعن من باعه، ومن اشتراه، ومن جعله أميراً، فاسترضاه الأمير ونزل على مشورته وأخذ بآرائه.
وكان الشيخ الدردير شجاعاً مقداماً لايخشى في الحق لومة لائم. وقد حدث يوماً وهو في مولد السيد البدوي أن صادر أحد الحكام أموال بعض الرعية، فطلب من بعض أتباعه أن يذهبوا إلى هذا الحاكم ليطلبوا إليه رد الأموال المغصوبة، ولكنهم خشوا أن يذهبوا إليه فركب الشيخ بنفسه وتبعه كثير من العامة حتى دخل خيمة هذا الحاكم وهو راكب بغلته، وأغلظ له القول، فاضطر إلى إرضائه وإرجاع ما اغتصبه من أموال . وفي سنة 1209هـ /سنة 1795م، حدث عدوان من أمراء المماليك على بعض فلاحي مدينة بلبيس فحضر وفد منهم إلى الشيخ عبد الله الشرقاوي، فغضب وتوجه إلى الأزهر فجمع شيوخه، وأغلقوا أبوابه، وأمروا الناس بترك الأسواق والمتاجر، وركب الشيوخ في اليوم التالي وتبعهم كثير من الناس إلى بيت الشيخ محمد السادات، واحتشدت جموع عديدة من الشعب، فأرسل إليهم الأمراء أحدهم، وهو أيوب بك الدفتردار، فسألهم عن أمرهم، فقالوا : نريد العدل ورفع الظلم والجور وإقامة الشرع وإبطال الحوادث والمكوسات (أي الضرائب)، وخشى إبراهيم بك زعيم الأمراء مغبة الثورة فأرسل إلى العلماء، وكانوا يقضون ليلتهم داخل الأزهر، قائلاً لهم : إنه يؤيدهم في غضبهم ويبرىء نفسه من تبعة الظلم، ويلقيها على كاهل شريكه مراد بك، وأرسل في الوقت نفسه إلى مراد يحذره عاقبة الثورة، فاستسلم مراد بك ورد ما اغتصبه من أموال، وأرضى نفوس المظلومين.
ولكن العلماء لم يقنعوا بهذا، بل أصروا على وضع نظام يمنع الظلم ويرد العدوان، فاجتمع الأمراء وأرسلوا إلى العلماء فحضر منهم الشيخ السادات والسيد عمر مكرم والشيخ الشرقاوي والشيخ البكري والشيخ الأمير، وكان هؤلاء رسل الثورة وقوادها، وطال الجدل بين الشيوخ والأمراء، ثم انتهى بأن أعلن الظالمون أنهم تابوا والتزموا ما اشترطه عليهم العلماء، وأعلنوا أنهم سيبطلون المظالم والضرائب المحدثة، ويأمرون اتباعهم بالكف عن سلب أموال الناس، ويرسلون أوقاف الحرمين الشريفين والعوائد المقررة إليهما، ويسيرون في الناس سيرة حسنة.
وكان قاضي القضاة حاضراً هذا المجلس فكتب على الأمراء وثيقة أمضاها الوالي العثماني وإبراهيم بك ومراد بك شيخا البلد، وانصرف العلماء من هذا المجلس وسط جموع الشعب التي أعلنت بهجتها بهذه الوثيقة الخالدة التي هي أشبه بوثيقة حقوق الإنسان.
كما استطاع الشعب بقيادة علماء الأزهر عزل الوالي المستبد خورشيد باشا حينما ثاروا عليه وطلبوا من السلطان العثماني عزله، فنزل السلطان العثماني على رغبتهم وعزله.
وعندما غزا الفرنسيون مصر بقيادة نابوليون بونابارت عام 1798م أشعل علماء الأزهر الثورة ضدهم، فانبعثت من داخل الأزهر الشريف ثورة القاهرة الأولى والثانية، حتى كان للشعب ما أراد بقيادة علمائه، ورحل الفرنسيون عن مصر.
وكذلك قام الشعب المصري العظيم بقيادة علماء الأزهر بصد الحملة الإنجليزية على مصر سنة 1807م المعروفة باسم حملة فريزر.
واستطاع علماء الأزهر أن يفرضوا على الخليفة العثماني الوالي الذي ارتضوه، وهو محمد على باشا، بعد أن أخذوا عليه المواثيق والعهود بالعدل بين الرعية، إلا أنه نقض ما أبرمه من عهد وخان ما بذله من وعد واستبد بالحكم، فثار عليه علماء الأزهر بقيادة عمر مكرم، فلاينهم محمد علي حتى استطاع أن ينفي عمر مكرم ويشرد باقي العلماء.
وكذلك كان علماء الأزهر في عهد خلفاء محمد علي، يشعلون الثورة ضد هذه الأسر الباغية كلما انتهكت الحرمات، وواصلوا جهادهم ضد الاحتلال الإنجليزي حتى تمام الجلاء. ومن فوق منبر الأزهر الشريف أعلن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الجهاد المقدس ضد جيوش الطغاة المعتدين عام 1956م فيما عرف بالعدوان الثلاثي على مصر، فكانت صيحة مدوية في أسماع العاملين، وانتفض الشعب المصري يجاهد المعتدين حتى تمام الانسحاب. وهكذا كان موقف الأزهر الشريف وعلمائه من الحياة العامة والسياسية جهادا ً في سبيل الله وفي سبيل الوطن ودفعا للظلم والعدوان، ولا غرو فالإسلام دين ودولة.
كما كان للأزهر أيضاً دور علمي وثقافي عظيم بَثَّ إشعاع المعرفة في شتى أقطار العالم ، وحفظ اللغة العربية والثقافة الإسلامية في عصور التدهور و الانحطاط، وإبان سيادة الاستعمار الغربي على الأقطار العربية.
ولم يقتصر دور الأزهر العلمي والثقافي على العلوم الدينية واللغوية -كما يظن الكثيرون- ولكن كان الأزهر يستمد ثقافته من ثقافة الإسلام، التي لا تفرق بين شتى المعارف والعلوم التي تخدم البشرية في شتى المجالات، كما أوضح الشارع الحكيم، ولهذا كان علماء الأزهر يدرسون جميع أنواع العلوم والفنون، فكان منهم الفقيه والطبيب والمهندس والفلكي والكيميائي والجغرافي والرحالة.... إلخ.
ولهذا حينما بدأت النهضة العلمية في مستهل العصر الحديث لم تجد لها منبعا إلا في رحاب الأزهر الشريف، فكان معظم المبعوثين إلى أوروبا من رجاله النابهين، من أمثال رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده، وغيرهما. كما كانت الدولة كلما أنشأت عدداً من المدارس العليا المتخصصة في شتى العلوم اختارت لها النابغين من أبناء الأزهر.
وعلى الرغم من ذلك استطاع الاستعمار، مع أمده الطويل وأساليبه الملتوية، أن يعوق حركة الأزهر في النمو والازدهار، فشن حروباً عنيفة ضد مريدي الاصلاح والتجديد فتقلّصت علوم الأزهر -لفترة ما- لتقتصر على العلوم الدينية واللغوية. ثم علت صيحات بعض المصلحين من أمثال رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وغيرهم، حتى قامت ثورة يوليو 1952م، فأزالت العقبات في طريق تطوير الأزهر الشريف ليكون منارة علم وإشعاع في كل علوم وفنون الحياة، وصدر القانون رقم 103 لسنة 1961م بشأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التي يشملها. وبهذا عادت للأزهر مكانته وعاد إليه دوره في نشر الثقافة الإسلامية والعربية وجميع فروع المعرفة.
كما ولا يزال للأزهر دور روحي خالد في مقاومة شتى تيارات الإلحاد والانحرافات والمذاهب الهدامة، والحملات التنصيرية المسمومة، ودعاة الفوضى والانحلال والإباحية. وهاهو الآن يقف كالطود الشامخ إلى جانب مؤسسات الدولة المختلفة ضد الإرهاب الأسود ودعاة الانحراف والإباحية، ويمثل غطاءً روحيّاً للمسلمين في شتى بقاع الأرض، ويبين الوجه المشرق والوسطية السمحة لهذا الدين الحنيف.
ولهذا كان الأزهر الشريف -ولايزال- مقصد طلاب العلوم والثقافة الإسلامية من شتى أنحاء العالم، وهو مصدر الدعوة الإسلامية إلى مختلف الأمم والشعوب، وباعث مئات العلماء إلى مختلف القارات.
وفاة محمد علي باشا:
في 14 رمضان 1265هـ الموافق 3 أغسطس 1849م توفي محمد علي باشا الكبير حاكم مصر.
ولد محمد على باشا بمدينة قولة إحدي مدن اليونان سنة 1769 م وكان أبوه إبراهيم أغا رئيس الحرس المختص بحراسة الطرق ببلده وكان له سبعة عشر ولدا لم يعش منهم غير محمد على ، وقد مات أبوه وعاش يتيما لا يتجاوز الرابعة عشر من عمره فكفله عمه طوسون الذى توفي فكفله صديق والد حاكم المدينة " الشوربجي " ، فلما بلغ محمد أشده انتظم فى سلك الجهادية وسرعان ما ظهرت شجاعته ثم تزوج من إحدي قريبات متصرف قولة وكانت واسعة الثراء وأنجب منها إبراهيم وطوسون وإسماعيل وتفرغ للتجارة وخاصة تجارة الدخان إلا أنه سرعان ما عاد للحياة العسكرية وذلك عندما أغار نابليون بونابرت على مصر وشرع الباب العالي أو تركيا فى تعبئة جيوشها انضم محمد على إلى كتيبة مدينة قولة التى ركبت السفينة التركية التى رست فى ساحل أبو قير بالإسكندرية بقيادة حسين قبطان باشا فى شهر مارس سنة 1801م ، وهكذا جاء محمد على إلى مصر واشترك فى المعارك الأخيرة التى دارت بين الإنجليز والأتراك من جانب والفرنسيين من جانب أخر وظهر اسمه فى هجوم الجيش التركي على الرحمانية وساعده الحظ بانسحاب الفرنسيين من قلعة الرحمانية فاحتلها محمد على دون عناء .
وقد ظل محمد على بمصر وشهد انتهاء الحملة الفرنسية على مصر وفى أثناء ذلك كان قد رقي إلى مرتبة كبار الضباط فنال رتبة بكباشي قبل جلاء الفرنسيين ثم رقاه خسرو باشا إلى رتبة " سر جشمه " أو لواء ، وكان فى ذلك الوقت الصراع دائرا فى مصر على السلطة وخاصة أن إنجلترا قامت فى 27 مارس سنة 1802م بعقد صلح عرف بصلح أميان AMIENS بين فرنسا وإنجلترا وهولندا وإسبانيا وكان من شروط هذا الصلح جلاء الإنجليز عن مصر ، كما أن الحرب بين المماليك والأتراك قد اشتدت فبدأ محمد على أن يدبر لنفسه خطة لم يسبقه إليها أحد وهى التودد إلى الشعب المصري واستمالة زعماؤه للوصول إلى قمة السلطة وخاصة بعد ثورة الشعب ضد المماليك فى مارس سنة 1804 م من كثرة وقوع المظالم وزيادة الضرائب على الشعب المصري كذلك كثرة اعتداء المماليك والجنود الألبانيين على الأهالي فبدأ محمد على فى هذه الأثناء فى استمالة الشعب المصري له واختلط بالعامة وانضم إلى المشايخ والعلماء ، وفى سنة فى سنة 1805م حدثت ثورة بالقاهرة ضد الأتراك بدأت عندما اعتدي الجنود الدلاة - جنود من عناصر السلطنة العثمانية - على أهالي مصر القديمة وأخرجوهم من بيوتهم ونهبوا مساكنهم فاجتمع العلماء وذهبوا إلى الوالي خورشيد باشا وخاطبوه فى وضع حد لفظائع الجنود الدلاة إلا أن الوالي لم يستطع عمل شيئا فبدأت الثورة تأخذ طريقها ضد الوالي التركي وجنوده وهنا اغتنم محمد على تطور أحداث هذه الحركة ليؤيدها ويناصر الشعب كما فعل فى ثورة الشعب ضد المماليك ، وفى تلك الأثناء حاول خورشيد باشا إبعاد محمد على عن مصر حيث نجح فى جعل الباب العالي يصدر فرمانا سلطاني بتقليد محمد على ولاية جدة إلا أن الشعب المصري وزعمائه وعلمائه كان قد أصدر حكمه بعزل الوالي العثماني خورشيد باشا وتعيين محمد على واليا على مصر بدلا منه فى 13 مايو سنة 1805م وهكذا تولي محمد على باشا حكم مصر نزولا على رغبة أبنائها وهو ما يعد انقلابا عظيما فى نظام الحكم لتبدأ مصر مرحلة جديدة من النهضة أثرت على تاريخها السياسي والحربي والاقتصادي والاجتماعي فما أن بدأ محمد على باشا حكم مصر إلا وكان قد عزم بل وصمم على أن يجعل من مصر دولة لها سيادة بعد غياب قرون طويلة لهذه السيادة وتسير على نفس خطي التقدم والرقي الذى تشهده دول العالم الكبري فى ذلك الوقت وبخاصة إنجلترا وفرنسا بعد أن ظلت مصر ولاية تابعة للدولة العثمانية لمدة ثلاثة قرون متعاقبة تتنازعها قوي عديدة .
بعد أن استتب لمحمد على باشا الحكم قضي على أعدائه من المماليك فى مذبحة المماليك الشهيرة سنة 1811م كما قام بإلغاء فرق الجنود الإنكشارية أو فرق الجنود العثمانية وبدأ فى إرساء دعائم جديدة كانت بدايتها أو نواتها الأولي هى النهوض بمصر فى كافة النواحي فبدأ أولا بالنهوض بالجيش وتنظيمه حيث قام الكولونيل سيف الذى عرف فيما بعد باسم الجنرال سليمان باشا الفرنساوي بتدريب أو تكوين فرقة جديدة من الجيش عرفت فى الوثائق الرسمية وكتب المؤرخين باسم " اليكيجريه " أو الجيش الجديد وكان قوام هذه الفرقة فى البداية من صغار المماليك وبعضا من الجنود الإنكشارية العثمانية والألبان إلا أن هذه البداية فشلت فشلا ذريعا بل إن الألبان ثاروا ضد محمد على باشا وقاموا بتحريض الشعب المصري على رفض هذه البدعة ، إلا أن هذا لم يكن ليثني محمد على باشا عن المضي فى التقدم بالجيش فقام بمحاولة ثانية وهي تجنيد فرقة من الجند السودان إلا أن هذه المحاولة فشلت أيضا لتفشي الأمراض بين الجند ومن هنا بدأ محمد على فى التفكير فى تشكيل جيش مصري جنوده من المصريين وكان هدفه من ذلك إنشاء جيش من المصريين يحقق أغراضه التوسعية وللدفاع عن بلادهم وإعلاءها ، وبذلك استطاع محمد على تثبيت أركان حكمه بالنهوض بالجيش المصري فأنشئت أول مدرسة حربية للمشاه سنة 1820 م وكان يتم تدريبهم بميدان الرميلة أو قره ميدان - ميدان القلعة حاليا - حيث كان يتولاهم محمد على بنظره أثناء التدريب ثم نقلت هذه المدرسة إلى أسوان فى سنة 1821 م ثم ازدادت المدارس الحربية وفتحت مدارس بكل من فرشوط والنخيلة وجرجا ، وفى سنة 1823م كان التشكيل الأول للجيش المصري وكان مكونا من ست كتائب ثم ارتفع عدد هذه الكتائب فيما بعد وأصبح الجيش المصري يواكب أحدث النظم العسكرية فى العالم فى ذلك الوقت .
وكما اهتم محمد على باشا بتنظيم الجيش المصري على أحدث النظم الحربية اهتم بالنهوض بمصر فى كافة المجالات وبخاصة فى العمارة التى تميزت بطرز جديدة وافدة على مصر كان أغلبها أوربي نظرا لاستقدام محمد للعديد من المهندسين والعمال الأجانب لبناء العديد من العمائر سواء الدينية أو المدنية أو الحربية وكان هؤلاء المهندسين أغلبهم من تركيا ومن أوربا فبدأ فى الظهور أنماط تركية وألبانية وأوربية نتيجة لتوافد هذه العناصر على مصر فى القرن التاسع عشر الميلادي على العمارة والفنون فعرف هذا الطراز فى كتب المؤرخين باسم " الطراز الرومي " .
كما تميز عصر محمد على باشا بالنهضة فى التنظيم والهندسة فى العمارة ممثلة فى أنه أصبح يوجد لائحة للتنظيم حيث فتحت الحارات والدروب والسكك وسهل المرور بها أصبح الناس بمصر يتبعون فى مبانيهم الطرز المعمارية الحديثة كما انتدب محمد على باشا المهندسين وملاحظي المباني ليطوفوا بالمدن للكشف عن المساكن والدور القديمة ويأمروا أصحابها بهدمها وتعميرها فإن عجزوا أمورا بإخلائها ولتقوم الحكومة بترميمها على نفقتها الخاصة لتكون بعد ذلك من أملاك الدولة ، أيضا قام محمد على باشا بوضع أولي لبنات التعليم فى مصر على الرغم مما لاقاه من صعوبات بالغة تمثلت فى المعارضة الشديدة من الأتراك من ناحية ومن التخلف والجهل الذى كان يسود مصر من ناحية أخري نظرا لكثرة الفتن والخلافات والصراعات بين المماليك والأتراك ومن هنا بدأ فى نشر المدارس المختلفة لتعليم أبناء الشعب المصرى ومنها المدارس الحربية مثل مدرسة السواري أو الفرسان بالجيزة مدرسة المدفعية بطره مجمع مدارس الخانكة ، مدارس الموسيقي العسكرية وغيرها من المدارس ، أيضا كان هناك العديد من المدارس الأخري مثل مدرسة الألسن ومدرسة الولادة ومدرسة الطب أو مدرسة القصر العيني ومدرسة الطب البيطري ومدرسة الزراعة وغيرهم من المدارس .
وكما اهتم محمد على باشا بالتعليم بمصر بمختلف أنواعه اهتم أيضا بالصناعة التى تطورت تطورا كبيرا فى عهده والتى أصبحت ثاني عماد للدولة بعد التعليم بكافة أشكالها وبخاصة الحربية لمواكبة الأنظمة التى كانت موجودة بأوربا وحتي لا تعتمد مصر على جلب كافة احتياجاتها من الخارج الأمر الذى سيجعلها تحت رحمة الدول الكبرى من ناحية واستنزاف موارد الدولة من ناحية أخري إلى جانب أن معظم الخامات المستخدمة فى الصناعة كانت موجودة فعلا بمصر فضلا عن توفر الثروة البشرية ، وهكذا تم إنشاء العديد من المصانع وكان أول مصنع حكومي بمصر هو مصنع الخرنفش للنسيج وكان ذلك فى سنة 1231 هـ / 1816 م ثم بدأت تتوالي المصانع سواء الحربية أو غيرها الأمر الذى أدي بمحمد على إلى اتباع سياسة خاصة للنهوض بهذه المصانع بدأها أولا باستخدام الخبراء والصناع المهرة من الدول الأوربية لتخريج كوادر مصرية من رؤساء وعمال وصناع وفنيين وإحلالهم محل الأجانب بالتدريج .
وقد انقسمت الصناعات الجديدة التى أدخلها محمد على باشا إلى مصر إلى ثلاثة أقسام الأول وهو الصناعات التجهيزية وتمثلت فى صناعة آلات حلج وكبس القطن وفى مضارب الأرز ومصانع تجهيزه ، وتجهيز النيلة للصباغة ، ومعاصر الزيوت ومصانع لتصنيع المواد الكيماوية كما قام محمد على باستبدال الطرق البدائية فى الصناعة وإدخال بدلا منه الآلات سواء الميكانيكية أو التى تدار بالبخار والمكابس ، أما القسم الثاني وهى الصناعات التحويلية وهى الصناعات المتعلقة بالغزل والنسيج بكافة أنواعه ، القسم الثالث وهو الصناعات الحربية وقد بدأ محمد على باشا فيها بعد قيام الحرب الوهابية سنة 1811 - 1819م حيث أسس أول ترسانة أو دار للصناعة بالقلعة - ورش باب العزب - ليكون على أحدث النظم الأوربية فى ذلك الوقت لتتوالى المصانع الحربية بعد ذلك بأنحاء مصر ، هذا ولقد كان ذلك بعضا مما شملته أوجه النهضة بمصر فى عهد محمد على باشا.